للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رضا الخصوم والرجوع في التحكيم:

المحكمون لا صفة رسمية لهم فهم أشخاص اختارهم الخصوم لفصل نزاعاتهم في أمور معينة محددة يمكن تجاوزها، ولذا فإنه لا يمكن تصور وجود تحكيم دون موافقة ورضا الخصوم من البداية ودون الاتفاق على المحكم والعمل بما يقضي به.

ومن هنا فإن الخصوم تشترط فيهم أهلية الرضا بشروطها وحدودها المعروفة ذلك لأن التحكيم قد يكون فيه تفريط في حقوق أو تنازل عنها وضياع وهدر لها.

يقول ابن فرحون المالكي في كتاب التبصرة: ولا يتشرط دوام الرضا إلى حين نفوذ الحكم، ويرى أصبغ وسحنون أنه إذا ترافع عنده فليس لهما الرجوع ويرى ابن الماجشون أنه ليس لأحدهما العدول عن التحكيم قبل أن يقاعد صاحبه ويطارحه الخصومة (١) .

وجاء في المغني لابن قدامة – معجم الفقه الحنبلي: (إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما ولا يجوز نقض حكمه لكن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان) (٢) .

من هو المحكم:

يشترط فيه أن يكون ثقة، اشتهر بالنزاهة لم يعرف عنه سوء، عالمًا أو مسترشدًا يطلب المعرفة ويستعين بمشاورة أهل العلم، فطنًا عارفًا بعرف وعادات الناس وأقضيتهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم.

وإذا عين له الخصمان مذهبًا فإنه يتقيد به حسب الأرجح من الأقوال لأن اتفاق الخصمين من شأنه أن يحدد له خطى سيره.

ويلاحظ الإمام المازري في هذا الشأن:

إذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيًا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك لزم حكمه، وإن خرج عن ذلك لم يلزم إذا كان الخصام بين مالكيين، لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول مالك وأصحابه، وكذلك إن كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما بغير ذلك.

والمالكية والشافعية والحنابلة يشترطون العدالة، خلافًا للحنفية الذين يسوغون قضاء الفاسق عند الحاجة لذلك.

جاء في الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني: (يشترط في المحكم أن يكون أهلًا للقضاء أي أهلًا لتحمل الشهادة) (٣) .

واشترط الشيخ الدردير في الشرح الصغير بحاشية الصاوي أن يكون غير خصم وعالمًا بموضوع الخلاف (٤) .

التحكيم بين الزوجين

إذا ظهر الشقاق بين الزوجين دون معرفة المتسبب في ذلك أو إذا خيف الشقاق بينهما قبل حدوثه وقبل وقوعه بتشكك أحد الزوجين فالقرآن الكريم يرشد إلى علاج ذلك في آية صريحة واضحة يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: ٣٥] .

والشقاق هو المنازعة والمجادلة والمخالفة، أصله من الشق وهو الجانب فكان كل واحد من شق غير شق صاحبه.

قال الشاعر:

وإلا فاعملوا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق

وقيل إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.

قال الله سبحانه وتعالى:

{فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: ١٣٧] .

والمخاطب بقوله سبحانه: فإن خفتم هو القاضي الذي رفع إليه النزاع حسب المشهور الراجح.

من هما الحكمان وما هي شروطهما؟

يشترط في الحكمين هنا أن يكونا من أهل الزوجين إلا إذا تعذر ذلك فيقع الالتجاء إلى بعث الأجانب عنهما.

والله سبحانه يشير إلى بعث حكمين من الأهل لأنهم أعرف الناس ببواطن الأمور، والنفوس ترتاح لمن كان قريبًا صديقًا فيقع البوح له من الزوج أو الزوجة بالسر وحقيقة ما يشكو منه، ويفضي إليه بما قدم يخفيه عن غيره من الناس، وعلى كل فالقاضي يحاول الكشف عن أسباب الخلاف والشقاق، ويسعى لإزالتها وقطع دابر الخلاف لإرجاع العلاقة الحسنة إلى سالف عهدها، وعودة الصفاء والود إلى عمدتي الأسرة، فهو لذلك يختار من يرسله ويرى فيه صلاحية القيامة بالمهمة.

يقول القرطبي: الحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، بشرط كونهما من أهل العدالة وحسن النظر والتبصر بالفقه فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل غيرهما من أهل الثقة والعدل، كل ذلك إذا أشكل الأمر، فإن علم القاضي من الظالم من الزوجين فإنه يأخذ منه الحق ويجبره على إزالة الضرر) (٥) .


(١) التبصرة: ١ /٤٣
(٢) المغني: ٢ / ٨١٠.
(٣) جـ ٣ ص ١٠٨
(٤) انظر الشرح الصغير: ٤ / ١٩٨
(٥) الجامع لأحكام القرآن الكريم: ٥ / ١٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>