للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقل القرطبي في تفسيره:

روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين لنستبق إلى ثغرة ثنية (١) . فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل كان جالسًا إلى جنبه: تعال نحكم أنا وأنت. فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلًا يحكم معه، فسمع عمر قول الرجل فدعاه وسأله هل تقرأ سورة المائدة؟

فقال: لا، قال هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال لا، فقال عمر رضي الله عنه لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] ,وهذا الذي معي هو عبد الرحمن بن عوف، ومن هنا نستروح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه طبق أحكام القرآن في هذا التحكيم، فانتخب الحكمين وتشاورا وحكما وهو بذلك يكون فقهًا قضائيًا يشرح وينير الطريق أمام المجتهدين.

ومثل هذا الأثر تقريبًا ما جاء في تفسير ابن جرير:

وقد أطنب المفسرون في بيان جزاء هذه المخالفة والحاجة فيها إلى حكم الحكمين لأن المماثلة بين النعم من إبل وبقر وغنم وبين الصيد الوحشي وله عدة أنواع أمر قد يخفى على أكثر الناس (٢) .

قال ابن جرير: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول أن ينظرًا إلى المقتول وإن كان قد فقداه يستوصفاه فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا حكمًا عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله سنًا وجسمًا وإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا حكما عليه من الضأن بكبير.

أما إذا أصاب حمار وحش فالحكم عليه يكون ببقرة، وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكر البقر، ,إن كان أنثى فمثله من إناث البقر.

وقال ابن حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن نعيم الفضل بن دكين حدثنا جعفر بن نرقان عن ميمون بن مهران أن أعرابيًا أتى أبا بكر فقال: قتلت صيدًا وأنا محرم فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال الأعرابي؟

فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك وأنت تسأل غيرك!

فقال أبو بكر: وما تنكر من ذلك والله سبحانه يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: ٩٥] فشاورت صاحبي إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.

فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه جاهلًا بهذا الأمر ناسيًا ما انزل في شأنه في حكم القرآن.

وفي هذه القصة، وفي قضاء عمر رضي الله عنه بيان لهذا التحكيم الذي لم يكن معروفًا سابقًا، وبيان لكيفية تطبيق إجراءاته، وهو إنشاء وسن تطبيقي لأمر صار الآن محط الأنظار في مختلف الأقطار والأمصار بعد أن تطور واتسعت رقعته وشمل عدة ميادين.


(١) الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجيل
(٢) تفسير ابن جرير: ٧ / ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>