للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبالنسبة للمحور الثالث فإن الأمر قد لا يسمح بأكثر من استعراض رؤوس موضوعات لأنه ميدان تترامى أطرافه وتستعصي قواعده على الجمع بوريقات قليلة أو دقائق معدودة. أما عن المحور الأول الخاص بالمبادئ المستخلصة فيمكن إيجازها فيما يلي:

أولًا: التعريف بالتحكيم أو معنى التحكيم وحكمه:

اختلفت الأمانة في العناصر التي عرضتها للبحث – الكلام عن التعريف بالتحكيم – ولم تطلب تعريف التحكيم وهذا يكشف عن دراسة الأمانة مسبقًا لما تطلبه، فالشائع في كتب الفقه الإسلامي التعريف بالتحكيم وليس تعريفه، وليس له تعريف جامع مانع وعلى هدي ذلك يمكن أن يقال: إن التحكيم اتفاق بين طرفي خصومة معينة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق شرع الله. وقد نص الفقه الإسلامي على مشروعيته سواء كان بين الأفراد أم كان في المنازعات الدولية ... وواضح من هذا التعريف أن التحكيم يختلف عن الصلح الذي يتم عن طريق نزول كل من المتصالحين عن بعض ما يتمسك به، كما يختلف عن الفتيا في أنه لا يكون إلا في خصومة وأنه ملزم للطرفين، ويختلف عن القضاء في أن المصدر المباشر الذي استصدر فيه هو رضا الطرفين لا تولية ولي الأمر، وقد أصدر على الإطلاق لفظ (خصومة) في التعريف، أن تشمل الخصومة الحالة والمستقبلة، وذلك لأن الفقه الإسلامي وإن كان لا يتضمن بصورة واضحة تقسيم صورة الاتفاق على التحكيم إلا ما يسبق نشوء المنازعة وما يلحق بها فإن عباراته تسع ذلك ولا تتأبى أن يستعمل معها ما اصطلح عليه رجال القانون من إطلاق شرط التحكيم على ما يكون منصوصًا عليه في العقود من قبول الالتجاء إلى التحكيم فيما قد ينشأ مستقبلًا في المنازعات في هذه العقود , من إطلاق اسم اتفاق التحكيم أو مشارطة التحكيم أو وثيقة التحكيم عن الاتفاق اللاحق على شئون المنازعات. وإصباغ وصف المشروعية على التحكيم قصد به أن التحكيم لا ينبغي أن يستقى حكمه من الأحكام والقواعد العامة التي تبيح الأفعال أو تسمح بالعقود طالما أنها لا تخالف نصًا أو تصادر إجماعًا فالأمر يستلزم أن يكون هناك دليل على المشروعية، وذلك لأن التحكيم ينتقص من ولاية القضاء بعزل بعض الخصومات عن اختصاصه ويلزم الدولة بأن تسهم في التنفيذ جبرًا لحكم صدر عما لا تنبثق سلطته من سلطتها ولا تتفرع ولايته من أي ولاية من ولاياته، وقد ترون حضراتكم أن توافقوا على ما انتهجه بحث العارض وبعض البحوث الأخرى من حصر الأدلة الشرعية فيما ينصب منها على التحكيم الرضائي الذي تحدث عنه ونتحدث عنه وأن نستبعد الأدلة التي تداور التحكيم في الشقاق بين الزوجين أو التحكيم عند قتل الصيد. فالتحكيم الأول الخطاب فيه قوله تعالى: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: ٣٥] ، إنما هو للحكام العائد إليهم أيضًا ضمير {وَإِنْ خِفْتُمْ} ، وهذا رأي كثير من المفسرين وقد صرح به في (البحر الرائق) كما صرح أيضًا به في (فتح القدير) ، وقالوا صراحة إن هذا لا يصلح دليلًا على التحكيم الرضائي. والأمر الثاني والذي هو الاستدلال بالتحكيم عند قتل الصيد ليس في حقيقته خصومة لأحد وإنما هو جزاء قد يكون مثل ما قتل من النعم أو إطعام مساكين أو صيام. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: ٩٥] .

<<  <  ج: ص:  >  >>