وبعد هذه الجولة بين منحنيات هذه الحقائق لا يبقى ريب لمرتاب أن القول الثالث هو أقوم قيلًا وأصح دليلا، على أن القول الثاني يعود إليه- كما ذكر الأستاذ الشريف في رسالته- لانعدام تلك الضوابط التي وضعها أصحاب هذا القول في اللحوم المستوردة من بلاد الغرب، وعليه فالخلاف بين القولين لا يعدو أن يكون لفظيا، وإنما الخلاف بينهما وبين القول الأول الذي يبيح هذه اللحوم من غير مراعاة شيء من تلك الضوابط، ويستند إلى عموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}[المائدة: ٥] وهو استدلال في منتهى البعد، وذلك يتضح بالنظر إلى هذه الأمور:
أولها: أنه لا يكفي في إعطاء أحد حكم أهل الكتاب إلا إن كان على عقيدة تقوم على الإيمان بكتابه، وأنى ذلك في أمة فقد سوادها الأعظم هذا الإيمان، واستولى عليها الإلحاد وتفشت فيها الإباحية- كما تقدم- ولا يغني عنهم انتسابهم إلى أصول تؤمن بالكتاب شيئا، فإن الرجل الذي كان نفسه على الإسلام وولد من أبوين مسلمين مؤمنين قانتين إن ارتد عن إسلامه - والعياذ بالله- لم يغن عنه كل ذلك شيئا، ولم يعط أحكام المسلمين في إباحة أكل ذبيحته ولا غيرها، وما الفارق في ذلك بين المسلم والكتابي؟
ثانيها: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}[المائدة: ٥] جاء إثر تحريم طائفة من الحيوان منها المنخنقة والموقوذة، فكيف يمكن أن يكون دليلا على إباحة المخنوق والموقوذ إن كانا على يد كتابي، مع أنهما حرام بالقطع إن كان الواقذ أو الخانق مسلما؟ وهو مما يترتب عليه كون الكتابي أكرم على الله من المسلم، لأنه أباح على يديه ما لم يبحه على يدي المسلم، ويأبى الله ذلك، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ثالثها: أن يلزم هؤلاء أن يحلوا بهذا لحم الخنزير إن كان على مائدة كتابي لأنه من طعامهم الذي استحلوه بهوى أنفسهم كما استحلوا المنخنقة والموقوذة وغيرهما، ولا فرق بين الصورتين، فإن تحريم المنخنقة والموقوذة جاء في نسق واحد مع تحريم الخنزير ومع تحريم الميتة والدم.
رابعها: أن الآية الكريمة مصدرة بإباحة الطيبات، ولا يقول عاقل أتاه الله رشدا: إن المنخنقة والموقوذة وغيرهما مما حرمه الله عليه تعد من جنس الطيبات، وهل يطيبها أن يكون الواقذ أو الخانق من جنس الكفار الذين رفضوا الاستجابة لدعوة كتابهم إلى الإيمان بخاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل؛ وهذه مغالطة للحقيقة ليس أبعد منها مغالطة، فكيف يكون الشيء الواحد خبيثا إن كان على يد المسلم وطيبا إن كان على يد غيره؟