ثالثها: ما قاله السبكي وغيره من قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وقد سمعت رد القاضي من الحنابلة على هذه الحجة، من أنه إنما اعتبر اختلاف مطالع الشمس لئلا يلزم الحرج وتؤدى العبادات قضاء ولا يلزم من عدم اعتبار اختلاف المطالع القمرية أي حرج، لأنه ليس في السنة إلا رمضان واحد، ولا يلزم من التوحيد في الأزمان السابقة إلا قضاء اليوم الأول الذي لم يروا الهلال فيه ولا حرج في ذلك، أما في أزماننا هذه فلا يلزم شيء أبدًا، لأنه من المتيسر جدًا بعد الاختراعات الحديثة تبليغ ثبوت الرؤية في لمح البصر، وقبل أن يطلع النهار الجديد في أي بلد إسلامي مهما كان نائيًا عن بلد الرؤية. فقد ثبت علميًا أنه ليس بين أي بلدين إسلاميين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من تسع ساعات فلكية، فإذا ثبتت رؤية الهلال في مراكش وهي أقصى بلد في المغرب لإنه من الممكن أن يبلغ ثبوت رؤية الهلال لأقصى بلد في المشرق بعد مرور تسع ساعات من غروب الشمس عندهم أي قبل طلوع الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف، لأن الليل عندهم دائما اثنتا عشرة ساعة، لأنهم على خط الاستواء تقريبا وهذا القدر الباقي من الليل كافٍ لإثبات أنهم في أول ليلة من رمضان وكذلك هو كاف لتبييت النية والسحور بدون حرج ولا مشقة، هكذا قال أهل الذكر والعهدة عليهم، والله يقول:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
رابعها: ما قاله السبكي أيضًا من أن الله لم يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه عندهم، والخطب في هذه الحجة سهل، وذلك لأنا نقول بموجبها أننا لم نقل بثبوت الهلال في حق من لم يروه من أهل البلاد النائية عن بلد الرؤية إلا إذا بلغهم خبر تلك الرؤية بطريق موثوق به وما دامت رؤية كل فرد من أفراد المكلفين ليست شرطًا لثبوت الهلال وما يتعلق به من الأحكام في حقه إجماعًا، بل الشرط العلم بها بمعنى غلبة الظن بأي طريق يقيد ذلك، فلا مناص من ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع، وأنه متى ثبتت الرؤية عند قوم عم ثبوتها جميع أهل الأرض متى نقلت إليهم وعلموا بها بأي طريق من طرق الإعلام ولو أنه تيسر للخلفاء والولاة في صدر الإسلام ما هو متيسر الآن من إذاعة الأخبار في جميع أنحاء المعمورة في أقل من لمح البصر ما ترددوا في إبلاغ ثبوت الأهلة إلى جميع الولايات الإسلامية، ليتوحد مظهرهم الديني ويتفقوا في بدء الصيام والإفطار وسائر أعيادهم ومواسمهم الدينية.
وجملة القول أنه ما دامت مسألة اختلاف المطالع القمرية من حيث اعتبارها أو عدم اعتبارها محل اجتهاد الفقهاء، ذلك الاجتهاد الذي اختلفت فيه أنظارهم فلا يكون بدعًا أن يرجح أحد النظرين على غيره، وينفصل في المسألة بعدم التعويل على اختلاف المطالع لما قدمنا من أسباب الترجيح، وقد علمت أن هذا هو قول جمهور العلماء من أئمة الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها، قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الغافل والوسنان: وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعي ذي العلم الزاخر ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكره ابن حجر وارتضاه، وقال: لأنه صار من رمضان بموجب الحكم ومقتضاه. اهـ.