للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الرابع

في بيان آراء العلماء في الاعتماد على الحساب

مذهب الحنفية:

قال الشرنبلالي في مراقي الفلاح: واتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر على أنه لا اعتماد على قول المنجمين في هذا، وجاء في الفتاوى الهندية: هل يرجع إلى قول أهل الخبرة والعدول ممن يعرف علم النجوم؟ الصحيح أنه لا يقبل ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وقد حكى صاحب القنية في هذا الشأن أقوالًا ثلاثة، فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا باس بالاعتماد على قولهم، ونقل ثانيًا عن ابن مقاتل: أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم، ونقل ثالثًا عن شرح السرخسي: أنه بعيد.

مذهب الشافعية:

قال الباجوري في حشيته على ابن القاسم الغزي: ولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، لكن له بل عليه أن يعمل بقوله وكذلك من صدقه، ومثل المنجم الحاسب وهو من يعتمد منازل القمر في تقدير سيره، وقال شمس الدين الرملي: للحاسب أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد، وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه، قال: وقياس قولهم: إن الظن يوجب العلم أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه، ولا ينافي هذا ما تقدم من عدم وجوب الصوم بقول المنجم، لأن الكلام فيه بالنسبة للعموم والمنجم في معنى الحاسب، وإنما أناط الشارع وجوب الصوم برؤية الهلال ولم يعتبر قول الحاسب والمنجم للعموم رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم؛ لأن رؤية الهلال أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس، فاقتضت الحكمة الآلهية التخفيف على العبد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال الشهر السابق ثلاثين، وقال العلامة ابن السبكي في بيان معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) إلخ ومعناه والله أعلم أن الشهر تارة يكون ثلاثين، وتارة يكون تسعًا وعشرين، وليس كما يقول أهل الحساب والنجوم، فإنه دائمًا عندهم تسعًا وعشرين وكسرًا، وقوله (إنا) يعني العرب، لأن الغالب عليها ذلك، وأن كان قد يعلم بعضهم الكتابة والحساب، وجعل ذلك علمًا في الشريعة على الشهر ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا، للتقصير في علمه، ولبعد مقدماته، وربما كن بعضها ظنيًا، فاقتضت الحكمة الإلهية التخفيف علن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين، ليس معنى الحديث النهي عن الكتابة والحساب، ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب في قوله: إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها، أو تمكن رؤيته أو لا تمكن رؤيته والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي وتسمية الشهرية، وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مفارقة الشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها سواء كان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده، وما اقتضاه إطلاق الماوردي والروياني والرافعي من خلاف في ذلك ليس بصحيح، وإنما اختلفوا فيما إذا بعد عنها بحيث تمكن رؤيته وعلم ذلك بالحساب وكان هناك غيم يحول بيننا وبينه، فذهب ابن سريج والقفال والقاضي أبو الطيب من أصحابنا وجماعة من غير أصحابنا إلى جواز الصوم بذلك لمن عرفه، وبعضهم لمن عرفه ولمن قلده، وبعضهم إلى جواب الصوم بذلك على من عرفه وبعضهم على من عرفه ومن قلده، وذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى أنه لا يعتمد ذلك أصلًا لا في الوجوب ولا في الجواز، ولا في حق نفسه ولا في حق غيره، واستدل الأولون بالقياس على أوقات الصلاة، فإنه يعمل بالحساب فيها لا نعرف في ذلك خلافًا إلا وجهًا أشار إليه صاحب الفروع وأجاب الآخرون بوجهين: أحدهما أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها قال {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} .

<<  <  ج: ص:  >  >>