للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن المؤسستين الماليتين الأكثر أهمية في حياة الناس المعاصرة، وهي:

البنوك وشركات التأمين هما (هبة) قانون الأعداد الكبيرة، فلقد أصبح ممكنًا بعد اكتشاف الإمكانيات التي يتيحها هذا القانون تصميم مؤسسة الوساطة المالية بطريقة مكنتها من أن تقوم بجمع مدخرات الأفراد وتقف أمامهم مستعدة - على الدوام - لردِّها إليهم بمجرد الطلب أو في وقت قصير جدًّا، حتى يكاد يبدو أن نقودهم محفوظة لديها في صناديق، ولكنها في نفس الوقت تستخدم نفس تلك المدخرات لتمويل عمليات متوسطة وطويلة الأجل كالتجارة والصناعة والإنشاءات العمرانية ... إلخ.

لقد أصبح ذلك ممكنا لإعمال قانون الأعداد الكبيرة على المدخرين،

لأنهم يعدون بالآلاف، فأصبح ممكنًا أن نعرف، بشكل شبه يقيني، كم منهم سوف يسحب نقوده، وكم منهم سيبقيها، ولأي مدة، فإذا عرفنا مثلًا أن ثلثي هذه المدخرات سيبقى في المصرف لمدة تزيد عن سنتين، أمكننا الدخول في عقود تمويلية مدتها سنتين بتلك المبالغ ... وهكذا، وكذا في عمل شركات التأمين، فإن فكرة التأمين بكافة صورها وأنماطها سواء منها ما كان تجاريًّا أو تعاونيًّا إنما هي معتمدة على قانون الأعداد الكبيرة، إذ أمكن من خلال الإمكانيات التي يوفرها هذا القانون توقع ما سوف يقع في المستقبل؛ أضرار من نوع من الحوادث، ثم معرفة حجم الأموال الذي سنحتاج إليه لتعويض المتضررين من ذلك النوع من الحوادث مثل حوادث السيارات، ثم بناء على ذلك تحديد رسوم الاشتراك بطريقة تغطي تلك التعويضات وتكاليف إدارة المشروع التأميني.

إن ما يهمنا في هذه المسألة هو أن ظهور هاتين المؤسستين بنشاطهما المعتمد على فكرة قانون الأعداد الكبيرة اقتضى ترتيبات تعاقدية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وولد أنواعًا من الالتزامات والحقوق ليس لها سوابق تقاس عليها، فلم يكن ممكنًا ممارستها لأنشطتها إلا بعقود جديدة بعضها مستجد وبعضها مركب.

فمثلًا قام نشاط شركة التأمين على نوع عقد معاوضة، إذا نظر إليه من منظار العلاقة الفردية بين المستأمن وشركة التأمين فإن فيه غررًا فاحشَا لا يشبهه إلا عقود الحظ والقمار، لكنه على خلاف الأخيرة يحقق منافع واضحة وفوائد محببة إلى النفوس لطرفي العقد، بحيث لا يشعر أي منهما بالغبن كما هو الحال بالعقود ذات الغرر الفاحش، وإذا نظر إليه من منظور قانون الأعداد الكبيرة وجد أنه أبعد ما يكون عن الخطر والقمار، ولا يكاد يوجد فيه الغرر، وكذلك الحال في البنوك فقد قام جمعها للمدخرات في الودائع الجارية المعتمدة على عقد القرض (في البنوك الربوية والإسلامية) ولكنه قرض ذو طبيعة مختلفة، فظاهر أن غرضه ليس الإرفاق ولا القربة ولا تتجه إرادة طرفيه إلى ذلك أبدًا، وهو قرض يجر منافع واضحة للدائن فيه على صفة معاملات متميزة ودفتر شيكات ... إلخ، فهذا بلا شك وإن كان ينطبق عليه تعريف القرض إلا أن له جوانب مستجدة ليس لها أصل تقاس عليه، ومرد هذا الاختلاف هو قانون الأعداد الكبيرة، وغير ذلك كثير.

<<  <  ج: ص:  >  >>