للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: انتشار العمل بصيغة الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة:

الشخصية الاعتبارية اختراع قانوني يتولد عنه إضفاء بعض صفات الآدمي على كيان اعتباري، ولاسيما ما يتعلق بالذمة المالية، فأضحى لتلك الشخصية القانونية المستقلة عن أصحابها القدرة على التعاقد مع غيرها من الشخصيات الطبيعية والاعتبارية، وأن تكون وعاء للحقوق والالتزامات وأن تنشغل ذمتها بالديون ... إلخ، وليست فكرة الشخصية الاعتبارية بجديدة إذ قد عرفت في القديم، وتضمنها التشريع الإسلامي ممثلة في الوقف وبيت المال، إذ لكل واحد منها شخصية اعتبارية بها أوصاف معتبرة، إلا أن المهم في المسألة ليس فكرة الشخصية الاعتبارية بذاتها بل فكرة المسؤولية المحدودة.

ذلك أن فكرة المسؤولية المحدودة لم يعرفها المسلمون قديمًا،

وإنما هي مستوردة في عند غير المسلمين. (١)

ويقوم النشاط الاقتصادي في الوقت الحاضر على العمل (المؤسسي) ، إذ لم يعد لأفراد التجار أثر يذكر أو حضور مهم إلا من خلال مؤسساتهم التجارية وشركاتهم المسجلة والتي تتمتع بشخصيات اعتبارية، كما أن النشاط المالي والمصرفي والمشاريع الاقتصادية ذات الحجم الكبير في الصناعة والزراعة وغيرها إنما تنهض به شركات مساهمة، وهي المثال الحي في يوم الناس هذا على (محدودية المسؤولية) .

لقد أدى ذلك كله إلى بروز الحاجة إلى أنواع جديدة من العلاقات التعاقدية التي تأخذ باعتبارها الطبيعة الخاصة لهذه الشركات، لا سيما عندما ترتبط تلك الشخصيات الاعتبارية مع بعضها البعض بعلاقات تعاقدية، فمعلوم أن الشركة ذات المسؤولية المحدودة مستقلة عن ملاكها وعن العاملين فيها، فإذا كانت طرفًا في عقد فإن مديرها يوقع عنها بالنيابة ولا يتحمل بنفسه - ولو كان مالكا لها - الالتزامات التي يولدها ذلك العقد. ولكن الشخصية الاعتبارية تختلف عن الإنسان، فهي لا تموت ولا تمرض ولا يمكن الحكم عليها بكفر أو إسلام، كما لا معنى لوصفها بالأمانة أو الخيانة، وفوق ذلك لا يمكن أن تكون عرضة للعقوبات الجنائية أو التعزير بالحبس أو الجلد ... إلخ؛ فاحتاج الأمر إلى أنواع متميزة من العلاقات التعاقدية وإلى شروط في العقود، الغرض منها أن تأخذ بالاعتبار هذه الفروق المهمة، فالمماطلة في تسديد الديون مع الملاءة عقابها في الشريعة التعزير بالجلد أو الحبس دون المال، ولكن إذا حصلت المماطلة من الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة، كيف يكون علاج ذلك؟


(١) وليس صحيحًا أن شركة المضاربة ذات مسؤولية محدودة، أو أن العبد غير المأذون بالتجارة يمثل سابقة للفقه الإسلامي في مسألة محدودية المسؤولية؛ انظر التفصيل في بحثنا في الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة.

<<  <  ج: ص:  >  >>