للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إن جمهور علماء الأمة عملوا بمضمون هذا الحديث وحرموا بيع الدين بالدين، وقد ذكر غير واحد من المحدثين أن ما تلقاه أهل العلم بالقبول ينجبر به ضعف إسناده. قال السيوطي رحمه الله تعالى، وهو يبحث عن تعريف الحديث الصحيح:

" وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح. قال ابن عبد البر في الاستذكار: لما حكي عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر ((هو الطهور ماؤه)) وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده: لكن الحديث عندي صحيح، لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال في التمهيد: روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدينار أربعة وعشرون قيراطًا)) . قال: وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غني عن الإسناد فيه (١) .

وقال ابن الهمام رحمه الله تعالى:

" ومما يصحح الحديث أيضًا عمل العلماء على وفقه. وقال الترمذي عقيب روايته: "حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم. . . إلخ"، وفي الدارقطني: قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون. وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده" (٢) .

وقال السخاوي رحمه الله تعالى:

"وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح. . . ولهذا قال الشافعي، رحمه الله، في حديث ((لا وصية لوارث)) : إنه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخًا لآية الوصية " (٣) .

وقال السيوطي، رحمه الله، وهو يتكلم في حديث ابن عباس: ((من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر)) :

الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حسن: ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم " فأشار بذلك أن الحديث اعتضد بقول أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله" (٤) .

وعلى كل، فقد اتفق جمهور الفقهاء على تحريم بيع الكالئ بالكالئ، وفسره أكثرهم ببيع الدين بالدين، حتى حكى بعضهم الإجماع على كونه ممنوعًا، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، أنه قال: " ليس في هذا حديث يصح، لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين " (٥) والحق أن الإجماع على منع بيع الدين بالدين إنما وقع على بعض صوره، مثل عقد السلم برأس مال مؤجل إلى ما فوق ثلاثة أيام، أو استبدال المسلم فيه بثمن أكثر من رأس مال السلم، وقد أجاز المالكية بعض صور لبيع الدين بالدين، وكذلك أجازة العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله تعالى، صورًا منه (٦) . وبما أن غرض هذا البحث لا يتعلق بتفاصيل هذه الصور، فنكتفي في هذا الموضوع بهذا القدر.


(١) تدريب الراوي، للسيوطي، ص ٢٥، طبع المدينة المنورة.
(٢) فتح القدير لابن الهمام: ٣ / ٣٤٩، مبحث طلاق الأمة من كتاب الطلاق.
(٣) فتح المغيث للسخاوي: ١ / ٢٦٨.
(٤) التعقبات على الموضوعات ص ١٤، طبع لاهور، سنة ١٨٨٦ م.
(٥) فيض القدير، للمناوي: ٦ / ٣٣٠.
(٦) راجع الدسوقي على الشرح الكبير: ٣ / ١٩٥ – ١٩٧، ط. دار الفكر، بيروت، وإعلام الموقعين: ٢ / ٣٨٨ و ٣٨٩؛ والغرر وأثره في العقود، للشيخ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص ٣٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>