للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أيضًا ميقاتًا بحريا؛ لأن المجيء للحج والعمرة إذ ذاك في حياة الرسول عليه السلام لم يكن بالسفن من جهة البحر الأحمر (بحر القلزم) . فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد أيضًا إذا قدّر الله للإسلام أن يمتد غربا إلى أفريقية، كما حصل فيما بعد والحمد لله.

هذا وقد قرر الفقهاء أن من لم يمرّ بأحد هذه المواقيت، بل سلك طريقا بين ميقاتين، فإنه يتحرى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظن فيحرم منه، فإن لم يتبين له قال الحنفية: يهل عندئذ بالإحرام على بعد مرحلتين من مكة؛ لأن هذه المسافة هي مسافة أدنى تلك المواقيت إلى مكة (ر: الدر المختار: ٢/١٥٤ – البولاقية الأولى – والمقنع من كتب الحنابلة: ١/٣٩٤، والمغني مع الشرح الكبير/ط أولى: ٣/٢١٤، والإنصاف للمرداوي: ٣/٤٢٧) .

في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من تحديد ما حدده بالنصر الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث بعده من اعتماد المحاذاة باجتهاد عمر رضي الله عنه، أقول: أن معالجة قضايا الساعة لا يصح منا أن نعالجها ونقرر لها حلولا شرعية منطلقين من خلفية مذهبية، أو فكرة مسبقة ننظر من زاويتها إلى القضية المستجدة، ونجردها من ملابساتها وظروفها الخاصة لنجرها جرًا إلى المقعد الذي هيأناه سلفا؛ إلحاقا وتعميما، سواء أكان ملائما لطبيعتها وظروفها وملابساتها أم غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزج بالمكلفين في مشقة وحرج نفتهما النصوص القطعية في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السمحة الخالدة.

قضايا الساعة (ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو: من أين يجب أن يحرم القادم جوًا بالطائرة إلى الحج أو العمرة) يجب أن تعالج بفكر فقهي حر، كأنما يريد أن يرى النصوص والأدلة المتعلقة بها الأول مرة مجردًا عن الخلفيات المذهبية والآراء المسبقة التي تتحكم في توجيه فكره دون أني يشعر. وعليه أن ينعم النظر في النصوص وأن يتفهمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهود في وقت ورد النص الشرعي، وما يوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدلالات العرفية. هذا إلى جانب الأساس المهم الآخر، وهو مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامة، والتي لا يمكن عزلها وقطع علاقتها بالنصوص الخاصة إذا أدرنا أن نفهمها فهمًا سديدًا لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع، والحل الصحيح في القضية المستجدة، سواء وافق تصوراتنا السابقة فيها أو خالفها، فإن التعصب لرأي أو تصور سابق يحجب عن البصيرة الرؤية السليمة، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها. فبناء على هذا المنطلق أقول:

إن حديث المواقيت المكانية الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النص الأصلي الوحيد في الموضوع لا يمكن أن يعتبر شاملا للطريق الجوي اليوم، ولو مرت الطائرة القادمة بقاصدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضية، وبالتالي: لا يمكن فيه تطبيق حكم المحاذاة لأحد المواقيت تلك المحاذاة التي ألحقها سيدنا عمر رضي الله عنه بالمرور بالميقات، وذلك لما يلي:

<<  <  ج: ص:  >  >>