ومن هذه الأدلة، والسنن التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ندرك أهمية الشورى، وبالأخص فيما يتعلق بالأحكام، ذلك أن احتمال الخطأ من الفرد، أقوى من احتماله من الجماعة، فالاجتماع والتشاور يفتح باب الحوار، ويجد كل فرد عند غيره من الأدلة والعلم والفهم والفقه والإدراك، وطريقة الاستنباط، ما لا يجده عند نفسه، وتتقارب الأفهام وتضيق هوة الخلاف، وتجعل الفتوى تخرج بصورة أقرب إلى الكمال، وأبعد عن الزلل، ويجد المرء في الشورى إنقاذاً لنفسه من التقول على الله ما لم يقل، ومن التوقيع عن الله عز وجل بما لم يأذن به، والمؤمن المنصف الباحث عن الحق، المتجرد عن الهوى والتعصب للرأي أو المذهب، يود لو أن الله عز وجل يجري الحق على لسان غيره، تجنباً لتحمل المسؤولية في هذا الشأن.
كما أن الفتوى الجماعية أكثر قبولاً عند عامة الناس، إذ يمنح ذلك نوعاً من الثقة والطمأنينة، وقد يكون ذلك من أسباب تقارب الآراء عند أهل العلم، ومفتاحاً لتوحيد التشريعات في الأمة الإسلامية ... وبالتالي تكون سبيلاً إلى وحدة الأمة، إذ وحدة الفكر من أهم أسباب وحدة الأمة، والمرء يدرك ما الذي حصل عند اتباع المذاهب من القطيعة، والعصبية المقيتة التي ما تزال آثارها ملموسة إلى اليوم، والتي كانت من عوامل تمزيق الأمة، وغلبة الأهواء عند العامة.
ولضمان سلامة الاجتهاد من الزلل، وصونه من الفوضى في عصورنا المتأخرة، فإن الشيخ عبد الوهاب خلاف – رحمه الله – بالغ في منع الاجتهاد الفردي، وجعل حق الاجتهاد للجماعة فقط، إذا توافرت فيهم الأهلية، فقال:
"الذين لهم الاجتهاد بالرأي، هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية، التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب، واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي، كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة إلا إذا توافرت في كل بفرد من أفرادها شرائط الاجتهاد، ومؤهلاته، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي، والاستنباط فيما لا نص فيه ".
"فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد، تنفي الفوضى التشريعية، وتشعب الاختلافات، وباستخدام الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط، ويسار على سنن الشارع في تشريعه وتقنينه "(١) .
ومع أن الاجتهاد الجماعي – كما ذكرت سابقاً – له أهمية بالغة في تضييق دائرة الخطأ فيما يتوصل إليه أهله، وفي تقريب وجهات النظر بين أهل العلم، وأنه من أهم العوامل في جمع الكلمة والقضاء على مظاهر الخلاف المؤدي إلى التنازع والشقاق، إلا أنه يصعب الجزم بمنع الاجتهاد الفردي لمن توافرت فيه أهلية الاجتهاد، سواء في الجوانب العلمية أو في التحلي بالتقوى والورع، والسلامة من الأهواء والعصبية، مع القدرة على الاستنباط، وقد رد كثير من الأئمة على من ادَّعى استحالة الاجتهاد بعد الأئمة الذين دونت مذاهبهم، وانتشرت في الأمصار ... منهم: الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، في رسالته (إرشاد الناقد إلى تيسير الاجتهاد) .
فقد رد على القائلين بمنع الاجتهاد المطلق في العصور المتأخرة، ومما جاء فيه قوله:"قد علمت مما سقناه، أن الله – وله الحمد والمنة – قد قيض للمتأخرين أئمة من المتقدمين جمعوا لهم العلوم اللغوية والحديثية من الأفواه والصدور، وحفظوها في الأوراق والسطور، وذللوا لهم صعاب المعارف، وقادوها إلى كل ذكي عارف، ودونوا الأصول واللغة بأنواعها مع انتشارها واتساعها، وأدخلوا علوم الاجتهاد لأهلها من كل باب ... تارة بإيجاز ... وتارة بإسهاب وإطناب، وهذا الشيء لا شك فيه ولا ارتياب، ولا يجهله إلا من ليس من أولي الألباب، الذين نحوهم يساق هذا الخطاب ".