فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته، وإدامة تصرفه، مع إعانته على معصيته؟ قلنا:"نعم دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال. . من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعاً لمفسدة الأبضاع، وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعاً لمفسدة الدماء، وهي معصية ... ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية، لا لكونها معصية، بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربي على مصلحة تفويت المفسدة، كما تبذل الأموال في فدي (الأسرى) الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة ".
ثم قال عقب هذه الأمثلة -: "ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار "اهـ.
وعند مراعاة المصلحة لابد من مراعاة الأمور الآتية:
"أولاً: أن يثبت البحث وإمعان النظر أنها مصلحة حقيقية لا وهمية، أي أن بناء الحكم عليها يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، لأنها بهذا تكون مصلحة متفقة – في الجملة – والمصالح التي قصدها الشارع.
وأما مجرد توهم المصلحة من غير بحث دقيق، ولا استقراء شامل، ومن غير موازنة بين وجوه النفع، ووجه الضرر، فهذه مصلحة وهمية لا يسوغ بناء التشريع عليها " (١) .
وليس المراد بالمصلحة هنا: مطلق المصلحة، لأن المصالح والمفاسد، لا تتمخض في الدنيا، ولكن المراد أن تكون المصلحة هي الغالبة، يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي:"المصالح المبثوثة – في هذه الدار – ينظر فيها من جهتين: من جهة مواقع الوجود، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.
"فأما النظر الأول: فإن المصالح الدنيوية – من حيث هي موجودة هنا – لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح ما لا يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعماً على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتبار لا يكون لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها، أو تسبقها أو تلحقها؛ كالأكل والشرب واللبس والسكن، والركوب والنكاح، وغير ذلك، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب، كما أن المفاسد الدنيوية، ليست بمفاسد محضة – من حيث مواقع الوجود – إذ ما من مفسدة – تفرض في العادة الجارية – إلا ويقترن بها، أو يسبقها، أو يتبعها من الرفق واللطف، ونيل اللذات كثير ".
(١) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص ٩٩-١٠٠.