ولا يقف الحد عند هذا في جلب المصالح، ودفع المفاسد، بل قد تقتضي الضرورات تحمل بعض المفاسد لدفع مفاسد أكبر، أو الحفاظ على بعض المصالح مخافة فوات جميعها، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام أيضاً (١) :
"قاعدة في تعذر العدالة في الولايات: إذا تعذرت العدالة في الولايات العامة، والخاصة، بحيث لا يوجد عدل، ولّينا أقلهم فسوقاً، وله أمثلة ".
"أحدها: إذا تعذر في الأئمة فيقدم أقلهم فسوقاً عند الإمكان، فإذا كان الأقل فسوقاً يفرط في عُشر المصالح العامة مثلاً، وغيره يفرط في خمسها، لم تجز تولية من يفرط في الخمس، فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر، وإنما جوزنا ذلك لأن حفظ تسعة الأعشار بتضييع العشر أصلح للأيتام، ولأهل الإسلام من تضييع الجميع، ومن تضييع الخمس أيضاً، فيكون هذا من باب، دفع أشد المفسدتين بأخفهما ... ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد "
"المثال الثاني: الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق، قدمنا أقلهم فسوقاً، لأنا لو قدمنا غيره لفات من المصالح ما لنا من المصالح ما لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها، ولو لم يجز هذا وأمثاله لضاعت أموال الأيتام كلها، وأموال المصالح بأسرها، وقد قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن: ١٦] .
"المثال الثالث: إذا تعذرت العدالة في ولاية الأيتام فيختص بها أقلهم فسوقاً فأقلهم، لأن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، فإذا كان مال اليتيم ألفاً، وأقلهم فسوقاً يخون في مائة من الألف، ويحفظ الباقي، لم يجز أن يدفع إلى من يخون في مائتين فما زاد عليها ".
"المثال الرابع: فوات العدالة في المؤذنين، والأئمة، يقدم فيها الفاسق على الأفسق، تحصيلاً للمصالح على حسب الإمكان ".
"المثال الخامس: إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة، قدمنا أقلهم فسوقاً، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتعرض للأموال، قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه، قدمنا المتعرض للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر، والصغير منها والأصغر ... على اختلاف رتبها ".