للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"والمصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور ":

أحدها: أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: ٧١] .

"الثانى: أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس "

"الثالث: أن المنافع والمضار، عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية: أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، فالأكل والشرب – مثلا – منفعة للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذا طيبا، لا كريها ولا مرا. . وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل ".

"الرابع: أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر، يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغراض أو خالفتها ".

وهناك أمر آخر غير ما تقدم، وهو أن من يدعي تقديم المصلحة على النص، سيؤدي ذلك إلى مفاسد عظيمة، لأن الناس – عند عدم الرجوع إلى الضابط الشرعي للمصلحة والمفسدة – تتباين رغباتهم وأهواؤهم وتتصادم مصالحهم، ويطلب كل شخص من المصالح المطابقة لهواه، ما يؤدي إلى مفاسد كبيرة على غيره، وهناك تحدث فتن عظيمة بين الناس، وفي ذلك يقول الشاطبي (١) .

"إنه قد علم بالتجارب والعادات، أن المصالح الدينية والدنيوية، لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم من ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح ".

ومن هنا يتبين أن الاستصلاح أو (المصالح المرسلة) من الأدلة التي يستند إليها عند عدم وجود دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، والمراد بالمصالح المرسلة:

"كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع، دون أن يكون لها أو لجنسها القريب شاهد بالاعتبار أو الإلغاء " (٢) ، ولا يعني ذلك عدم وجود أى دليل تستند إليه، وإلا لما أمكن للمجتهد أن يجعلها دليلاً على حكم من أحكام الشريعة بحال، إذًا "فالمصالح المرسلة لابد أن تستند إلى دليل ما قد اعتبره الشارع، غير أنه لا يتناول أعيان هذه المصالح بخصوصها، وإنما يتناول بالجنس البعيد لها: كجنس حفظ الدين، والأرواح، والعقول، والأنساب، أي فهو قاصر عن دليل القياس الذي يتناول عين الوصف المناسب بواسطة النص عليه، كما في الوصف المؤثر أو بواسطة جريان حكم الشارع على وفقه كما في الملائم " (٣) .


(١) الموافقات: ٢/ ١٧٠، مع شىء من التصرف.
(٢) ضوابط المصلحة، ص ٣٣٠.
(٣) ضوابط المصلحة، ص ٢١٧

<<  <  ج: ص:  >  >>