للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعتبار العرف والعادة:

كما أن المفتي قد يرجع إلى العرف أحياناً، فيستند إليه في اعتباره مصدراً من مصادر الأحكام عند الحاجة، وذلك ضمن ضوابط حددها أهل العلم، وسنوضح ذلك فيما يلي:

أولاً – تعريف العرف: هو ما يتعارف الناس، ويسيرون عليه غالباً من قول أو فعل (١) ، وهذا يشمل مطلق الأعراف الحسنة منها والقبيحة، وهذا تعريف بالمعنى العام ... ومنهم من حصر تعريف العرف في العرف الحسن، ومن ذلك تعريف الجرجاني في (التعريفات) (٢) فقد عرفه بقوله: "العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول "، وعرفه بعض المتأخرين (٣) بقوله:

" العرف ما استقر في النفوس، واستحسنته العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، واستمر الناس عليه فيما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه "، وهذا تعريف بالمعنى الخاص.

ثانياً: لم يفرق جمهور القائلين به بين العرف والعادة، باعتبار: أن العادة مأخوذة من المعاودة والتكرار لأفعال والأقوال، وهي بهذا الاعتبار تشمل ما تتلقاه الطباع السليمة مما يوافق الشرع، وما كان مصدره الهوى والشهوة وغيرهما، مما يكون سببا في حدوث أي أمر مع تكرره مرة بعد أخرى تكراراً يخرجه عن كونه واقعاً بطريق الموافقة بل يصبح معهوداً، وجاريا بين الناس ... إلا أن العرف المعتبر: هو العرف بالمعنى الخاص كما تقدم.

ثالثاً: ينقسم العرف إلى قسمين:

١- القولي: وقد عرفه القرافي بقوله: "العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف، يستعملون اللفظ في معنى معين، ولم يكن ذلك لغة " (٤) .

والمراد أن اللفظ يغلب على معنى معين، بحيث لا يفهم عند إطلاقه إلا ذلك المعنى، وذلك مثل: إطلاق لفظ (الدابة) على ذوات الأربع، ولفظ (اللحم) على غير السمك، ولفظ (الولد) على الذكر، وهذا الاستعمال بمثابة وضع جديد للفظ.

٢- العملي: "وأما العرف العملي، فهو: ما جرى عليه الناس، وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم ".

مثال ذلك: تعارف الناس البيع بالتعاطي، ومن غير صيغة لفظية بالإيجاب والقبول، وكذلك الاستصناع، ومن ذلك التوكيل المطلق في البيع، فإنه يتقيد بثمن المثل، وغالب نقد البلد، تنزيلاً للعادة الجارية في المعاملات منزلة صريح اللفظ ... وكذلك حمل الإذن في النكاح على الكفؤ، ومهر المثل المتبادر إلى الأفهام.

وقال العز بن عبد السلام: "فصل في تنزيل دلالة بالعادات وقرائن الأحوال منزلة صريحة الأقوال، في تخصيص العام، وتقييد المطلق وغيرهما " (٥) . وقال ابن القيم: "وقد أجري العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع " (٦) .

وقد خرج ابن القيم على هذا الحديث عروة بن أبي الجعد البارقي، حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً يشتري شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بالدينار والشاة الأخرى (٧) ، فباع وأقبض، وقبض بغير إذن لفظي، اعتماداً منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع (٨) .

وهذا الدليل صريح في اعتبار العرف العملي وتنزيله منزلة النطق اللفظ، وقد جرت على ألسنة الفقهاء عبارات تدل على اعتبار العادة والعرف، مثل (العادة محكمة) و (العرف قاض) و (العرف كالشرط) ... وما دامت العادة والعرف تشمل ما هو حسن، وما هو قبيح؛ فإن الإسلام يقر ما هو حسن، ويعتبره في جنس الأدلة، ويمقت العادات القبيحة، ويدعو إلى نبذها وهجرها، والعدول عنها إلى ما جاء به الإسلام من أحكام وآداب وأخلاق.

والعادات من حيث هي قد تبدأ باستحسان لأمر ما، أو تقليد، أو غير ذلك، وما أن تلبث حتى تتمكن من النفوس، وتشيع عند الناس، وتكثر ممارستها حتى يكون لها سلطان على النفوس يصعب بسببه التخلي عنها وتركها، فإذا كانت مما يقره الشرع، فذلك أمر محمود، ولا ضرر من استحكامها في النفوس؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى مفسدة، بل يجلب مصلحة، أو يدفع مفسدة، أما إذا كانت قبيحة، بحيث تتعارض مع مقاصد الشريعة، لما فيها من المفاسد، فمثل هذه العادات تحتاج من الدعاة المصلحين إلى بذل الجهد في استئصالها، وإن كان ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة، ذلك أن الذين يألفون عادات معينة يصعب عليهم مفارقتها، والمتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يجد أن أول من تصدى للإسلام، هم أصحاب العادات المتوارثة، والتقليد الأعمى، كما حكى الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه، في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: ١٠٤] .


(١) مصادر التشريع فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص ١٤٥.
(٢) مصادر التشريع فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص ١٤٩.
(٣) الدكتور السيد صالح عوض، في كتابه (أثر العرف في التشريع الإسلامي) ، ص ٥٢.
(٤) الفروق: ١ / ١٧١.
(٥) قواعد الأحكام: ٢ / ١٢١.
(٦) إعلام الموقعين: ٢ / ٤٤٨
(٧) الحديث في أبي داود برقم (٣٣٨٤) .
(٨) إعلام الموقعين: ٢ / ٤٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>