للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذلك واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه عنتًا شديدًا، ومقاومة عنيدة، وإصرارًا على التمسك بالباطل، بسبب ما طبعوا عليه من العادات والتقاليد الموروثة.

ومن أجل ذلك جاءت التشريعات الإسلامية متدرجة، لاجتثاث ما علق بالنفوس، وغرس الفضائل، والإلزام بأوامر الشرع ونواهيه، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إنما نزل من القرآن أول ما نزل: سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبداً " (١) .

أما إذا كانت العادات حسنة تقرها قواعد الإسلام، وتتفق مع مقاصده العامة، فينبغي مساعدة الناس على المزيد من التمسك بها، والتحلي بها، والعمل على ذيوعها، ما دامت تحقق مصالح للمجتمع، وإذا كانت الأعراف المعتبرة شرعاً هي الأعراف الحسنة، فإنه لابد من توضيح الشروط اللازم توافرها في العادة المعتبرة.

شروط العرف المعتبر في التشريع:

وللعرف المعتبر شرعاً شروط لا يتم بناء الأحكام عليها إلا بتوافرها، وهي:

الأول: أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.

قال السيوطي: "إنما تعتبر العادة، إذا اطردت، فإذا اضطربت فلا " (٢) .

وقال ابن نجيم: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت " (٣) .

أي أن انخراقها أحياناً لا يقدح في اعتبارها، إذ العبرة بالغالب، ولذا يقول الشاطبي: "وإذا كانت العوائد معتبرة شرعاً، فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة " (٤) .

الثاني: أن لا يكون العرف مخالفاً لنص من الكتاب أو السنة.

فلا اعتبار لعرف خالف نصاً شرعيًّا، فلو تعارف الناس على شرب الخمر، أو لعب الميسر، أو خروج النساء سافرات، أو على التعامل بالربا، أو لبس الرجال بالحرير والذهب، أو نحو ذلك مما يصادم نصوصاً شرعية فلا اعتبار له، إذ المصلحة الحقيقية في مراعاة النصوص الشرعية لا في مخالفتها كما أنه لا مصلحة إطلاقاً فيما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن هناك احترام والتزام وتقيد بالنصوص الشرعية لما بقي لها معنى، ولأصبحت الأهواء والشهوات هي المقدمة على النصوص، كما أن النصوص الشرعية هي المصدر للأحكام الشرعية، ومنها تستمد الأحكام، وبها يعرف شرعية غيرها من عدمه.

الثالث: أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه: فالأصل أن العرف بمنزلة الشرط، فيصبح ملزما، اعتمادا على العرف المطرد أو الغالب، ما لم يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه لزم التقيد بالمصرح به، ولا اعتبار حينئذ للعرف؛ لأن دلالة اللفظ المصرح به، أقوى من دلالة العرف، بل هو ناقض له، فإذا كان العرف يقضي أن العامل يعمل ساعات معينة، لزم رب العمل والأجير التقيد بذلك، فإن اتفقا عند العقد على أقل من ذلك أو أكثر، أصبح العرف حينئذ ملغي.

وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام: "كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب يقطع المنفعة لزمه ذلك، ولو أدخل أوقات قضاء الحاجات في الإجارة، مع الجهل بحال الأجير في قضاء الحاجة، لم يصح، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب، وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صح، ووجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع، ويمكن الوفاء به جاز، كما لو أدخل بعض الليل في الإجارة بالنص عليه، ولو شرط عليه أن يعمل شهرًا الليل والنهار، بحيث لا ينام ليلاً ولا نهارًا، فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء به، فإن النوم يغلب بحيث لا يتمكن الأجير من العمل، فكان ذلك غررًا لا تمس الحاجة إليه " (٥) .

الرابع: أن يكون قائماً حال العقد وسابقاً عليه، فلا عبرة بعرف لاحق ولا يعتبر ملزماً، وبذلك صرح أهل العلم كالسيوطي (٦) ، وابن نجيم (٧) ، والشاطبي (٨) ... وغيرهم.


(١) البخاري، في فضائل القرآن: ٦ / ١٠١
(٢) الأشباه والنظائر: ص ٩٠.
(٣) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص ٤٧.
(٤) الموافقات: ٢ / ٢٨٨.
(٥) قواعد الأحكام: ٢ / ١٥٨.
(٦) الأشباه والنظائر، ص ٩٢.
(٧) الأشباه والنظائر، ص ٥٠.
(٨) الموافقات: ١ / ٢٩٧ – ٢٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>