للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وشرع الكفارات تخفيفاً على العباد من الوقوع في العنت، وتطهيراً لهم من الذنوب، وخيرهم أحياناً بين أنواع من الكفارات، وأحياناً جعلها على الترتيب، وكل هذه الأمور يطلب تفصيلها في مظانها.

وأباح الشرع عند الضرورات ما لم يجز في الأحوال العادية، حتى شاع في القواعد الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات "، "إذا ضاق الأمر اتسع "، " المشقة تجلب التيسير "... ونحوها.

ومع أن الشارع لا يقصد المشقة في تكليف العبد، إلا أنه قد يثاب عليها أحياناً، وقد أوضح العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (١) ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه، أكثر ما يؤجر على ما ليس بشاق، فقال:

"إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط، والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً، فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً ... وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع، بالنسبة للاغتسال في شدة برد الشتاء، لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين، وإنما التفاوت فيما لزم عنهما، وكذلك مشاق الوسائل؛ كمن يقصد المساجد والحج، والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات، وشرائطها وأركانها، فإن الشارع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد ".

ولما لم تكن المشقة مقصودة للشارع، فإنه ينهى عن المبالغة في العبادة، والتنطع، وعدم الأخذ بالرخص، فكل ذلك خارج عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ... فقد كان يحب القصد والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وينهى عن تجاوز ذلك، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة " (٢) .

قال الحافظ ابن حجر – عند شرح هذا الحديث – (٣) :

والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع، فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا: أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراد المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ... إلخ ".

ولما بالغ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الإكثار من العبادة، وأرشده النبي إلى ما هو الأولى له، ولم يأخذ بوصية رسول الله، ندم بعد ذلك في آخر عمره، حتى قال: فشددت فشدد عليَّ، وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري لعلك يطول بك العمر، قال: فصرت إلى الذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (٤) .

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب في القصد الذي لا يؤدي إلى الهلاك والملل والكسل، والانقطاع، ووهن القوى البدنية، والإخلال بكثير من الواجبات، وعدم الإتقان في العمل، والسآمة ... فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن محبة الله سبحانه لدوام الطاعة من العبد، وعدم انقطاعها، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((... وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه، وإن قل)) (٥) ، وهذا لا يتأتى عند وجود المشقة الخارجة عن المعتاد.


(١) قواعد الأحكام: ١ / ٣١.
(٢) البخاري، في الإيمان: ١ / ١٥؛ والنسائي: ٨ / ١٢٢؛ والبيهقي، في السنن الكبرى: ٣ / ١٨.
(٣) فتح الباري: ١ / ٩٤.
(٤) البخاري، في الصوم، ٢ / ٢٤٥؛ ومسلم برقم (١١٥٩) .
(٥) البخاري في الرقاق: ٧ / ١٨٢؛ ومسلم برقم (٧٨٢) .

<<  <  ج: ص:  >  >>