للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحاصل أن على المفتي أن لا يتعمد إيقاع المستفتي في العنت والمشقة، إذا كان هناك مندوحة عن ذلك في الشريعة الإسلامية، مع مراعاة عدم تتبع الرخص، خاصة في حق من علم تساهله، واستهتاره بأحكام الشرع، حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى جرأته وتماديه واستغلاله للتسامح في الفتوى وتحقيق أهوائه.

سد الذرائع:

وقد راعى الشارع سد الذرائع في كثير من الأحكام الشرعية، فهو لذلك:

"مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية " (١) ، وقد عرفه القرافي في (الفروق) بأنه: "حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها " (٢) ، وهذا التعريف ينطبق على الذرائع التي تقضي إلى مفسدة، وهي التي يطلب منعها وسدها، لا الذرائع من حيث هي، إذ الذرائع وسائل، والوسائل تأخذ حكم المقاصد، قال القرافي (٣) : "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة: هي وسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للحج والجمعة، وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل ... غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ".

وقد تنخرم هذه القاعدة، فيختلف حكم الوسيلة عن حكم ما تفضي إليه، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار ... كدفع مال لرجل يأكله حراماً، حتى لا يزني بامرأة، إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال ... فهذه الصور كلها الدفع وسيلة إلى المعصية بأكله المال، ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (٤) .

وقد فصل ابن القيم القول في المسألة فقال (٥) :

"لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل الحرمات والمعاصي – في كراهتها والمنع منها – بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات – في محبتها والإذن فيها – بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً، وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده، أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه، لعد متناقضاً، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء، إذا أرادوا حسم الداء، منعوا صاحبه من الظن بهذه الشريعة الكاملة، التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ...؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها أن علم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سد الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقة إلى الشيء ". ثم أورد أمثلة على الأفعال والأقوال التي تفضي إلى المحرم، والتي لا يجوز الإتيان بها ما دامت كذلك، وقد أوصل هذه الأمثلة إلى تسعة وتسعين مثالاً، نذكر منها ما يلي:

"الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] .

فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين – مع كون السبب غيظاً وحمية لله، وإهانة لآلهتهم –لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز ".

"الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: ٣١] ، فمنعهن من الضرب بالأرجل – وإن كان جائزاً في نفسه – لئلا يكون سبباً في سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن ".

"الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: ١٠٤] ، نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة – مع قصدهم بها الخير – لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، يقصد فاعلاً من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها، سداً لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهاً بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون ".


(١) الموافقات: ٣ / ٦١.
(٢) الفروق: ٢ / ٣٢.
(٣) الفروق: ٢ / ٣٣.
(٤) الفروق: ٢ / ٣٣.
(٥) إعلام الموقعين: ٣ / ١٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>