للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال العزّ بن عبد السلام: "أمر الله عباده بتحصيل مصالح إجابته وطاعاته، ودرء مفاسد معصيته ومخالفته، إحساناً إليهم وإنعامًا عليهم " (١) .

هذه الأقوال وأمثالها تقرر أصالة الذي نريد إثباته، وهو ضرورة مراعاة ظروف الواقعة، وأعراف الناس، وتطورات الزمان، وترك الجمود على العبارات الفقهية المنقولة التي راعت ظروفاً معينة في عصر أصحابها، مما يدل على تجديد حيوية الفقه الإسلامي ومرونته وإمكان تغطيته أحوال الناس، وتحقيق تطبيقات العصر، ومواكبة التقدم والتطور، ومراعاة المصالح المتجددة، والأعراف السائدة في كل زمان ومكان، سواء أكان العرف عاماً أم خاصاً.

الثوابت والمتغيرات في الفقه أو الشريعة:

الأحكام الشرعية قسمان كبيران: ثوابت ومتغيرات.

أما الثوابت أو الأحكام الأساسية: فهي المنصوص عليها صراحة في النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية، القطعية (اليقينية التي لا تحتمل أي معنى آخر سوى المعنى المتبادر منها) أو الظنية التي تقرر مبدأ عاماً أو حكماً غير معلل بعلة المصلحة، أو إقرار عرف معين أو مؤقت لفترة زمنية محددة.

والمراد بالحكم الظني: هو الحكم الذي يتبادر إلى الذهن، ويحتمل معنى آخر احتمالاً ضعيفاً أو نادراً يجعل دلالة الحكم ظنية (أغلبية) غير قطعية.

وهذه الثوابت لا تتبدل ولا تتغير، لأنها ذات صفة دائمة، أو ذات حاكمية مطلقة على الأحداث والوقائع، لكون المصلحة فيها ثابتة وغير قابلة للتبدل، وليس للأعراف المتغيرة تأثير عليها، مثل فرضية العبادات من صلاة، وصيام وحج وزكاة، وتقرير أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأصول الإسلام أو أركانه الخمسة: وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وحرمة المحارم في آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ... } [النساء: ٢٣] ، والتراضي في العقود في آية: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] ، ومبدأ إلزامية العقود والوفاء بها في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] ، وضمان الضرر الواقع بالآخرين في حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) (٢) ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وحماية الحقوق الخاصة أو العامة في آية: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: ١٨٨] ، وتحريم القتل والسرقة والزنا وتطفيف الكيل والميزان في آيات سورة الإسراء [٣١ – ٣٥] وغيرها، وجعل الإقرار حجة قاصرة على المقر، والمسؤولية الفردية أو الشخصية في آية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] ، وكون الأصل براءة الذمة من التكاليف، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته، وجعل الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال الإباحة في آية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] ، وسد ذرائع الشر والفساد في آية: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] ، ونحو ذلك مما جاءت الشريعة الإلهية لإقراره، وإصلاح شؤون الفرد والجماعة.

أما النصوص القابلة للتغير فهي ثلاثة:

١- النص المعلل بعلة ثم تتغير العلة: كامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير بقوله: ((إن الله هو القابض الباسط الرزاق المسعِّر)) (٣) ، لأن مسوغ التسعير لم يوجد، وهو مغالات التجار بالأسعار، ثم تغير العرف، فأفتى فقهاء المدينة السبعة والإمام مالك، ومتأخروا الزيدية فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة، بجواز التسعير، لأن غلاء الأسعار في عهد التابعين وأئمة المذاهب صار بسبب من التجار أنفسهم، لطمعهم وجشعهم، أما في عهد النبوة فكان الغلاء بسبب قلة العرض للسلعة، وزيادة الطلب، وتبدل الأمر بعدئذٍ، فجاز التسعير بالعرف الجديد.

٢- النص العرفي المراعى فيه حال المبادلة القائم، بالكيل في الأموال الربوية: ((المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة)) (٤) ، ثم تغير، فأصبح أسلوب التبادل بالوزن، لذا أفتى الإمام أبو يوسف رحمه الله بأن مقياس تبادل الأموال الربوية لتحقيق المساواة وعدمها: هو المقياس العرفي، وأنه يتبدل بتبدل العرف، أي ما آل إليه الأمر، وهو الصواب، وهو أيضاً رأي المالكية.

٣- الأحكام التي روعي فيها تنظيم بيت المال، مثل عدم إعطاء الزكاة لبني هاشم وبني المطلب، وأن الزكاة لا تحل لهم كما لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كان سائغاً في العهد النبوي، حيث كان لهم سهم من الفئ والغنائم، فلما فسد نظام بيت المال، وحجب عنهم هذا السهم، أفتى فقهاء الحنفية والمالكية بعطائهم من الزكاة، حفاظاً عليهم، وإبقاء على كرامتهم.


(١) قواعد الأحكام، ص ٢.
(٢) رواه ابن ماجة والدارقطني مسنداً (متصلاً) ، ورواه مالك، مرسلاً (غير متصل) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٣) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي؛ وصحح الترمذي من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه.
(٤) رواه أبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>