للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه طائفة من أقوال أئمة الفقه والعلم:

قال الإمام القرافي رحمه الله في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها، وبين قاعدة العرف الفعلي، لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها (١) .

"على هذا القانون (وهو اتباع الأعراف المحلية) تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، وسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وأفتهِ به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل مقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.

وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق، وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً، مستغنية عن النية " (٢) .

وقال ابن القيم رحمه الله في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:

"هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد.

وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه، فقد استقام على سواء السبيل ... إلخ " (٣) .

وقال العلامة الشام ابن عابدين رحمه الله في رسالته: " (نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) :

"فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهرة الرواية، من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلا يضيع حقوقاً كثيرة، ويكون ضرره أكثر من نفعه " (٤)

"وبما قررناه اتضح لك معنى ما قاله في القنية وأشرنا له في البيت السابق (٥) ، من أنه ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية، ويتركا العرف، والله أعلم " (٦) .

"ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن أحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم، لقال بما قالوا به، أخذاً من قواعد مذهبه " (٧) .


(١) الفرق بينهما كما ذكر صاحب تهذيب الفروق: ١ / ١٨٩: أنه في العرف القولي يصير الأصل مهجوراً، وكان العرف ناسخاً للغة، والناسخ يقدم على المنسوخ، أما في العرف الفعلي فيظل اللفظ اللغوي مستعملاً في مسماه اللغوي، فلا يكون العرف الفعلي ناسخًا للغة حتى يقدم، من حيث كونه ناسخاً، على المنسوخ.
(٢) الفروق: ١ / ١٧١ – ١٧٧؛ وانظر تهذيب الفروق بهامشه: ١ / ١٨٧ وما بعدها.
(٣) إعلام الموقعين: ٣ / ١٤ – ١٥، ط محيي الدين عبد الحميد.
(٤) رسائل ابن عابدين: ٢ / ١٣١.
(٥) وهو قولهم: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.
(٦) رسائل ابن عابدين: ٢ / ١٣٣.
(٧) رسائل ابن عابدين: ص ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>