للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين.

ولابد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت.

ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك.

والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون وكله اجتهاد (١) .

ضرورة فتح باب الاجتهاد:

ولما كانت الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخلوها تحت الأدلة المنحصرة، لذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره.

أو نقول لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، فإذًا لابد من الاجتهاد في كل زمان (٢) .

وهذه الوقائع المستجدة هي الواقعات، والنوازل، واستنباط أحكامها من مظان الأدلة هو الفتوى والاجتهاد والتخريج.

الاستفادة من منهاج الفقهاء جميعاً في الاستنباط:

إن الشريعة الإسلامية لا تتحدد بمجتهدات عصر معين أو مذهب فقهي واحد، لأنها أبعد غوراً وأوسع مدى من حيث مبادئها الكبرى وأصولها العامة ومقاصدها التشريعية، وإن الاجتزاء بمذهب اجتهاد معين يتنافى وطبيعة الاجتهاد نفسه من حيث أنه تصرف عقلي في مقررات الوحي، وكل اتجاه من الاتجاهات الفقهية يمثل وجهة نظر معينة في هذه المقررات فهماً أو تطبيقاً، ولكنه لا يمثل فقه الشريعة كاملة من حيث هي.

والاجتهاد بطبيعته يحتمل الخطأ فثمرته هو الفقه كذلك، بل الاجتهاد بالرأي هو صلب التفقه في التشريع، هذا، ولما كان لا يتصور انقطاع الاجتهاد بالرأي في التشريع أبد الدهر لصلته الوثقى بمعاني العدل والإنصاف في الفروع، وإذا انقطع الاجتهاد فقد العدل ما به يعرف، وما به يتحقق ... واقعية التشريع تقتضي من المجتهد بألا يقتصر بالاستنباط أو التطبيق على الأصول النظرية الذهنية المجردة، بل ينزل بها من أفقها التجريدي المحض إلى عالم الوقائع المشخصة بظروفها وأحوالها، ويبحث ويمحص ذلك كله، ثم يطبق على كل حالة ما يناسبها مما يقتضيه العدل والإنصاف، والمصلحة المقرة شرعاً، لأن أساس التشريع كله المصلحة والعدل، وهما المقصد الكلي للتشريع الإسلامي (٣) .


(١) الموافقات: ٤ / ٩٠ – ٩٤، بتصرف.
(٢) الشاطبي، الموافقات: ٤ / ١٠٤.
(٣) بداية المجتهد: ٢ / ١٥٤

<<  <  ج: ص:  >  >>