للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، وأن قصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط لا تفريط – وهذا المذهب – كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين. .

وقد رد رسول الله على جماعة من أصحاب التبتل لما طلبوا منه ذلك. وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: ((أفتان أنت يا معاذ؟)) . (أخرجه في التيسير عن الخمسة إلا الترمذي) .

وقال: ((إن منكم منفّرين)) (رواه البخاري في صلاة الجماعة) .

وقال: ((سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) (رواه البخاري في كتاب الإيمان) .

فعلى هذا: يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاقه مضاداً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً.

وإذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح. . . فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار – وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله تعالى، ولكن الترجيح فيها لا بد منه، لأنه أبعد عن اتباع الهوى، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد (١) .

التوسعة في اجتهاد الرأي:

إن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك.

قال القاضي إسماعيل: إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي.

فإما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا.

قال ابن عبد البر: كلام إسماعيل هذا حسن جداً.

هذا وإن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي والفطر والأنظار تختلف، فوقع الاختلاف من هنا، لا من جهة أنه مقصود الشارع.

فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف، سهل على من بعدهم سلوك الطريق؛ فلذلك – والله أعلم – قال عمر بن عبد العزيز:

ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم. وقال: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا (٢) .


(١) الشاطبي، الموافقات: ٤ / ٢٦١.
(٢) الشاطبي، الموافقات: ٤ / ١٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>