للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا أن الأهم في عملية الفتوى عند المالكية هو اعتماد العمل كمرجح أقوى من الراجح والمشهور، وهو العمل الفقهي الذي أخذ أصله عن عمله أهل المدينة، فما به العمل غير المشهور مقدم في الأخذ غير مهجور. وعمل أهل المدينة عند مالك هو من السنة العملية، وقد بين مالك في رسالته إلى الليث بن سعد تمسكه بعمل أهل المدينة حيث قال منكراً على الليث: بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس في بلدنا الذي نحن فيه. . . ويضيف: وإنما الناس تبع لأهل المدينة. . . ثم يقول: فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أرَ لأحد خلافه. قال ابن القاسم وابن وهب: العمل عند مالك أقوى من الحديث.

واحتج المالكية بحديث: ((المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) واحتجوا بأقوال الصحابة. قال القاضي عياض في المدارك: باب فضل عمل أهل المدينة وترجيحه على عمل غيرهم واقتداء السلف بهم قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة. قال ابن عمر: لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر إلى أهل المدينة لصلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق اتبعه الناس. وأضاف: عن أبي بكر بن حزم: يا ابن أخي إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا يكن في قلبك شيء.

وقال ربيعة: ألف عن ألف أحب إلي من واحد على واحد.

وقد جرى في ذلك نزاع طويل معروف، وقد فصل العلامة تقي الدين ابن تيمية في هذه المسألة، فجعل ذلك على أربع مراتب.

- المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مقدار الصاع والمد وترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء.

أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهو حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وذكر ابن تيمية ما جرى بين مالك وأبي يوسف لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، فرجع أبو يوسف إلى قومه وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت.

- وبعد نقل طويل يخلص إلى أن عمل أهل المدينة الذي يجري هذا المجرى حجة باتفاق المسلمين.

- المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي، وكذا ظاهر مذهب أحمد، أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها.

- المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين أو قياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع؛ فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح به ولأصحاب أحمد وجهان.

وانتهى إلى قوله: فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.

- وأما المرتبة الرابعة: فهي عمل المتأخرين بالمدينة، ورجح أنه ليس بحجة عند المحققين من أصحاب مالك ودافع شيخ الإسلام عن أهل المدينة دفاعاً قويًّا، قال في ثناياه: "وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوتت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح وأقوال أهل الأمصار رواية ورأيًّا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحاً للدليل، وليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين " (١) ، أي أكثر من مائة صفحة أجرى فيها مقارنة بين مذهب أهل المدينة وبين غيره، أثنى فيها على مالك وأصحابه، وختم ذلك بقوله: "فكذلك بيان السنة ومذهب أهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال للمتبعين للظن وما تهوى الأنفس والله أعلم ".


(١) يراجع ذلك كله في الفتاوى: ٢٠ / ٢٩٤ – ٣٩٦، باختصار وحذف وتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>