للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ابن القيم ففرق بين نقل أهل المدينة واجتهادهم، فصحح النقل ورجح به وناقش في الاجتهاد ورد كثيراً من المسائل التي تركت لها الأحاديث لمخالفتها للعمل (١) ، والذي يظهر لي والله أعلم أن عمل أهل المدينة تارة يكون عمل جميع علماء المدينة فيكتسب قوة ومكانة. وتارة يكون عمل بعضهم فيكون أضعف وقد يكون ذلك اختياراً للإمام مالك فيقتصر على كونه عملاً لأهل المدينة، وهو عمل بعضهم ويكون قوله من باب العام يراد به الخاص فقد قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في ترجمة ربيعة بن أبي عبد الرحمن: "وحدثنا مصعب قال: حدثنا الداروردي إذا قال مالك وعليه أدركت أهل بلدنا وأهل العلم ببلدنا، والأمر المجمع عليه عندنا؛ فإنه يريد ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن هرمز" (٢) . وبهذا يمكن أن نفهم كثيراً من القضايا التي حاول العلماء ردها لوجود مخالفة بعض علماء فيها المدينة لما ذهب إليه المالكية.

ومن ناحية أخرى:

- توجد في غير مذهب مالك إشارات إلى الترجيح بالعمل دون ذكر قطر؛ ففي كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى في ترجمة علي بن عثمان الحراني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها (٣) .

وفي رواية لأحمد بن حنبل لمسائل عن رفع اليدين في الصلاة، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من أصحابه: أنهم فعلوه إذا افتتح الصلاة وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع. قلت له: فبين السجدتين؟ قال: لا، قلت: فإذا أراد أن ينحط ساجداً؟ قال: لا، فقال له العباس العنبري: يا أبا عبد الله، أليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله؟ قال: هذه الأحاديث أقوى وأكثر (٤) .

كذلك عمل أحمد بحديث ضعيف وهو: "العرب أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً"، فقيل لأحمد رحمه الله تعالى: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه قال: الموفق؛ أي أنه يوافق أهل العرف (٥) . وسئل الإمام أحمد عن حديث الزكاة "ومن أباها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا"فقال: ما أدري ما وجهه. وسئل عن إسناده فقال: هو عندي صالح الإسناد (٦) . مما يدل على أن الإمام كان يلتفت إلى العمل.

- أما عمل الأمصار والأخرى غير المدينة:

فهو أمر لا نجده في غير مذهب مالك إلا أن اعتبار المفتى به التي نجدها في ثنايا كلام بعض المذاهب، وقد قدمنا بعض ذلك من مذهب أبي حنيفة، واعتبار العرف في الجملة، توعز بوجود عمل ما يختلف في الزمان والمكان.

- أما متأخرو المالكية فإنهم جعلوه مصدراً من مصادر الفتوى إلى جانب الراجح والمشهور، فهو مقدم عليهما حيث يرجح به القول الضعيف، وأنكره المقري والتلمساني.

وحقيقة إجراء العمل أنه: الأخذ بقول ضعيف في القضاء والفتوى من عالم يوثق به في زمن من الأزمان، ومكان من الأمكنة، لتحقيق مصلحة أو لدرء مفسدة، وقد يكون مسايرة لعرف أو مجاراة لرأي من له الأمر.


(١) إعلام الموقعين: ٢ / ٢٧٤.
(٢) التمهيد: ٣ / ٤.
(٣) كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى: ١ / ٢٢٩.
(٤) يراجع كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى: ١ / ٢٣٥.
(٥) يراجع كتاب العرف للشيخ عادل عبد القادر قوته: ١ /١٢١.
(٦) يراجع المغني لابن قدامة: ٤ / ٧، طبعة هجر.

<<  <  ج: ص:  >  >>