والذي يمكن الجزم به من الآن هو أن الشريعة الإسلامية المرنة الطيعة مبنية أساسًا على الإباحة الأصلية. ومن ثم رأيناها في العصور الأولى وعند بناء الحضارة الإسلامية العالمية قد تأثرت بكل ألوان الثقافات التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي. فلم تحاربها، ولا قطعت الصلة بها، ولكنها تجاوبت معها تجاوبًا أبقى على المفيد منها، وأخضعت ما دونه إلى الأصول والمبادئ الشرعية التي لا يجوز تجاوزها لكونها المثبتة لهويتنا والمميزة لملتنا. وأهل الاجتهاد هم الذين استنارت عقولهم وبصائرهم بهدي الكتاب والسنة، وامتلأت قلوبهم بالخوف من القول في دين الله بغير حجة، وعرفوا بالرسوخ العلمي، وسلامة الاعتقاد، واستقامة التفكير، واعتدال منهج الاستدلال، والتحرر من تحكم الهوى وسيطرة التعصب، ونقلت عنهم مذاهبهم نقلًا يفيد الثقة والطمأنينة لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: ٤٣] .
ورغم ما تواضع عليه فقهاء المسلمين من ذلك في كل عصر فإنا نجد أصحاب الاتجاه المعادي للفقه الإسلامي يحادون المذاهب الفقهية، ويهاجمونها مدعين أنها لم تكن تعبر إلا عن وجهات نظر أصحابها، وهي تترجم عن آراء شخصية، خاضعة في جملتها لبيئات خاصة وعصور معينة، وهذا وإن صح بالنسبة إلى جزئيات الأقوال والآراء المتصلة بالحوادث اليومية مما لا نص فيه، فإنه غير صحيح بالنسبة إلى مجموع الفقه الإسلامي الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة، شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية ابتداء من عصر الصحابة رضي الله عنهم، ومَن بَعدهم على توالي القرون مهتدية بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
أما دعواهم الأخرى التي تبرز فيما بين تلك المذاهب من تفارق واختلاف في الأحكام، مما لا تقره وحدة الإسلام ولا شريعته الغراء، فمردود؛ لأن المذاهب الفقهية بريئة من ذلك. ومعلوم أن كل إمام من أئمة الحق له في بحر النبوة ورد وله منه شرب. قال ابن خلدون: إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية، كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا. وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا.
فكلهم من رسول الله ملتمس
غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
واختلاف المجتهدين ليس تفرقًا في الدين، ولا تجريح فيه للمختلفين، وإنما هو أمر طبيعي فطري يمليه تفاوت الأفهام، كما أنه أثر لاختلاف مناهج البحث وطرق الاستدلال وهذا لا يجري بينهم في القطعيات التي هي أساس التشريع ومحوره، وما يحدد اتجاه الإسلام وأهدافه. وإنما تظهر فقط فيما دون ذلك من أحكام ونظم.