ثالثًا: إن الإسلام أعطى الدين مفهومه الصحيح، فلم يعد مجرد شأن شخصي يمكن أن يتنازل عنه الفرد لصالح النظام الاجتماعي العام - كما اعتبره الغربيون - ومن هنا قالوا بأن إقامة الدولة الدينية تعني إعطاء امتيازات شخصية لأتباع الدين دون غيرهم، وإنما عاد الدين كل شيء في حياة الإنسان، لأنه تصورات واقعية عن الكون والإنسان يثبتها المنطق الصحيح، ونظم تعالج مسيرة الإنسان على ضوء علم إلهي غير محدد وحكمة شاملة، ومع هذا التصور والمبدأ يختلف التقييم.
إن الدين حينئذٍ يحاول أن يبني الإنسانية الصالحة، لا أن ينظم مجرد علاقة روحية شخصية للفرد بخالقه، وانطلاقًا من هذا المبدأ فمن الطبيعي أن نتوقع للإسلام أن يقود الحياة كلها، ولا يسلم أموره بيد دولة لا تؤمن به، ومن الطبيعي بحكم كونه دينًا مخولًا من رب الإنسانية أن يدعو الناس جميعًا للدخول تحت سلطته، كما أن من الطبيعي أن يكون المسلم المنسجم مع الهدف أوسع حقوقًا، كما يكون أكثر تحملًا للمسؤوليات في الدولة المسلمة.
وهذا لا يعني أن الإسلام يعمل على وضع تمايزات كبرى في دولته بين المسلم وغير المسلم، وإنما يقيم توازنًا بين الحقوق والمسؤوليات، كما هو مبين في متون الفقه الإسلامي.
وربما نجد بعض المفكرين المسلمين يعالجون المسألة من سبيل آخر، فيدعون أن كون الدولة مسلمة في الأقطار الإسلامية أمر طبيعي وسائر وفق القوانين الديمقراطية بعد انتخاب الأكثرية المسلمة لها، وهذا الإصلاح أمر لا مسوغ له بعد ملاحظة حقيقة التصور الإسلامي للحكم، وإن الإسلام لا يحكم من خلال هذا المنطق، وليس لمبدأ الأكثرية تأثير إلا في إطار سماح المذهب الإسلامي للحكم. والواقع أننا يجب أن لا نجعل الديمقراطية هي الأصل الذي يقرر مصير الحكم الإسلامي، والتشريعات الإسلامية للحياة، فالعكس هو السبيل المنطقي الصحيح.
رابعًا: ولا نجدنا هنا بحاجة لتوضيح موقف الإسلام من التقدم العلمي، واحتضانه للعلماء في مختلف المجالات، ويكفيه أنه صنع - رغم الانحراف في تطبيقه - الحضارة العلمية الناصعة في عصر كانت أوروبا تغط فيه في سبات قاتل. والواقع أنه لا يمكن تقديم مثل واحد يوضح وقوف الإسلام أمام أي تقدم إنساني، في حين يمكن تقديم الأمثلة الكثيرة على تنمية الإسلام لروح التقدم الإنساني والبحث، وقد فرض الإسلام - كفاية - العمل على كون المجتمع الإسلامي دائمًا في طليعة المجتمعات، نعم، كان التقدم العلمي في الإسلام إنسانيًّا، أي منسجمًا مع التقدم الأخلاقي لا متعارضًا معه، وهذا له مجاله الرحب من الحديث.