٣ - أما مسألة الوسيلة إلى الله تعالى وأوامره فنلاحظ فيها:
أ - أن الكاتب أغفل الأمور المعلومة لدى المسلمين، أو ما نسميه ببديهيات الفقه، وكذلك ما تجمع عليه الأمة الإسلامية، فلا يبقى أي مجال للتشكيك، لأنها معلومة (والحجية ثابتة للعلم) ، وكذلك أغفل النصوص المتواترة المعلومة أيضًا في طليعتها النصوص القرآنية. أما النصوص غير المتواترة فقد ركز عليها مشككًا وطارحًا فكرة التحريف، ومشككًا في الدلالة والظهور، إلا أن علم أصول الفقه الإسلامي قد حل هذه المشكلات وفقًا لأسسه المتينة، فليس لنا أن نشكك في حجية خبر واحد بعد أن كانت سيرة العقلاء الممضاة شرعًا على العمل به، وليس لنا أن نقيد ظهورًا مطلقًا بشكل اعتباطي إلا أن تقوم قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك حسب القواعد المعروفة التي لا مجال للحديث عنها هنا.
كما أنه ليس لنا أن نخترع من أنفسنا ملاكات معينة للأحكام، وإنما نتبع في ذلك ما يصرح به الشرع العظيم فضلًا عن أن نقوم بانتخاب أحكام معينة لا تنسجم مع أذواقنا، لإعطائها صفة مؤقتة، وتفقد بذلك خلودها.
ب - إن ما يسميه بـ (واجبات الوهلة الأولى) أمر مبهم، فقد يقصد أنها واجبات لأول وهلة، أي واجبات بدوية سرعان ما تفقد وجوبها، وهو أمر سخيف لا محصل له، وقد يقصد بها ما نسميه نحن بالواجبات الأولية، أي الواجبات التي تأتي في حد ذاتها على المكلفين (ما لم يعارضها عنوان ثانوي) كوجوب الصلاة، وحرمة الخمر، وإذا جاءت هناك عناوين ثانوية كالحرج والاضطرار والتزاحم مع الواجبات الأهم، قدمت هذه العناوين الثانوية وصارت واجبات فعلية، فهذه أيضًا لها قواعدها الرصينة وهي تعبر عن مرونة الشريعة، وكذلك يتقدم الأمر الصادر من ولي الأمر، وهو الأمر الحكومي، على العناوين الأولية المباحة - في تفصيل يذكر في محله - فلا يشكل هذا الجانب أية مشكلة تشريعية.
جـ - والأغرب من كل ذلك ما يصرح به من أن إطلاق النص لا يستلزم القاعدة المتضمنة فيه، وما النص إلا كاشف عن مضمونه ومعرف له.
د - والإيمان بالمصالح المرسلة لا يعبر عن نقض لنظام الأحكام الإلهية، وإنما يعبر عن مرونة تشريعية، حيث يلجأ ولي الأمر إلى ما تقتضيه المصالح في إطار المقاصد الشرعية، وفي إطار المؤشرات التي يمنحه الشارع إياها، يلجأ لعلاج الحالات المتغيرة بإصداره الأحكام المصلحية، ونحن هنا لا نؤمن برجوع الفقيه إلى ذلك.