٢ - في الديمقراطية الحقة، واختلاف مرجعيتها عن (البرلمانية) :
إن الديمقراطية الحقة هي الديمقراطية المباشرة، وهي الهيكل التنظيمي السياسي الوحيد اللائق بالإنسان المكرم، وإن الإنسانية على اختلاف دروبها منتهية إليها في آخر المطاف، كما انطلقت منها في المبتدأ.
إن تشكيل لجنة أو تأليف مجلس أو عقد اجتماع بين أفراد المجتمع الواحد هو في طبيعة الأشياء، إنه الأمر العفوي الذي تُبادئ به الشعوب عندما تأخذ الأمور مجراها على الطبع والسجية وهدي العقل الطبيعي.
كل نظريات العقد الاجتماعي - عدا ما جاء به (هوبز) متوافقًا مع المنهجية الصراعية الغربية - تقوم على هذا الافتراض، على المبادأة الأولى إلى التجمع وتأليف الجمعية الأساسية الذي يحدث إذ ينتقل الأفراد إلى حالة الاجتماع، في بدء الاجتماع البشري، وعند تلاشي الدولة، وفي الثورات الشعبية، وفي فراغ السلطة، عند انهيار النظام، وعندما تنحل الأوضاع إلى عناصرها، وتعود إلى بداياتها، يؤلف الناس، وهم أكفاء، لجنة أو مجلسًا أو جمعية يدعونها (Ecclesia) أو (دار الندوة) أو (Committee) أو (Congress) أو (Soviet) أو مؤتمرًا.
وإذا كانت الديمقراطية في أول تجربة لها في أثينا كانت ديمقراطية مباشرة.
وإذا كانت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قد شهدت تجربة الشورى باعتبارها فرضًا عينًا على كل بالغ عاقل راشد مكلف كالصلاة والإنفاق:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الشورى: ٣٨] ، ومن خلال توزيع المدينة إلى أحياء، يتشاور كل في ما يخصه، ويبعث برباعته - أو المؤتمن من الربعة - ليشارك مع (أولى) أمر (منا) في تنسيق القرار العام وتخطيطه، وتدبير أمر تنفيذه.
إذا كان ذلك كذلك، فإن (جان جاك روسو) قد قال منذ أكثر من مائتي سنة بأقوى منطق وأنصع بيان:
(إن السيادة لا يمكن أن يفترض أن أحدًا ما يمثلها؛ لأنها لا يجوز التخلي عنها، وهي في جوهرها تقوم بالإرادة، والإرادة لا يمكن افتراض تمثيلها أبدًا، فهي هي أو هي غيرها، ولا وسط بينهما. وكل قانون لم يوافق عليه الشعب نفسه هو لاغٍ وليس بقانون، والشعب الإنجليزي يعتقد أنه حر، ولكنه مخطئ في اعتقاده، إنه لا يكون حرًا إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان، فإذا تم انتخابهم فهو عبد، بل ليس له من الأمر شيء) .