ثم يأتي الحديث عن يهود المدينة الذين يكونون لبنة من لبنات هذه الجماعة الجديدة، فيذكر أحياءهم كما ذكر أحياء الأنصار:(يهود بني عوف ويهود بني الحارث ويهود بني النجار ... إلخ) ، ويتحدث عما لليهود بعضهم مع بعض من روابط خاصة وعلائق متميزة، ثم يذكر ما يجمعهم مع المؤمنين من روابط ومسؤوليات وحقوق وواجبات تقتضيها وحدتهم أو اتحادهم في هذه الجماعة الجديدة؛ فهم (أمة واحدة من دون الناس) ، ولكن مع تأكيد أنه - وإن يكن اليهود أمة مع المؤمنين - (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) ، وأن لليهود النصرة والمساواة بالمسلمين (غير مظلومين ولا متناصر عليهم) .
وأخيرًا، وبعد أن أعلنت الصحيفة التكافل بين الموسرين والمعسرين، أوجبت الالتزام بوحدة المسؤولية في الأمنين الداخلي والخارجي، ووزعت الأعباء المالية في حالة الدفاع، وحرمت الجريمة فيما بين أهل الصحيفة، وعاقبت عليها دون استثناء، (بعد كل هذا) نصت الصحيفة على الشريعة التي تحسم النزاع فيما بين أهل الصحيفة في كل حدث يحدثون.
وفي هذا الهيكل التنظيمي لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد البذور الأولى لكيفية ممارسة الشورى جماهيريًّا، وِفق مبدأ (الحي الجماهيري) والذاتيات المتميزة والمتمايزة - وليست ذات الامتيازات.
ونجد كل التأييد للتجربة الجماهيرية فيما تم - فيما بعد - بعد بناء الجامع، ثم انتشار الجوامع - وفق قاعدة عدم تعدد الجوامع داخل أي حي أو ذاتية متميزة - لتكون وحدات تجمع شعبي منتشرة على طول القاعدة الشعبية وعرضها، وعليها يتوزع الأفراد، بحيث يكون كل - في النهاية - منتميًّا إلى جامع من الجوامع.
وفي الجامع كما كان معروفًا كانت تتم المشاورة واستجماع الإرادة الجماعية أو العزم أو الإجماع، فالجوامع أداة تنظيم وتضامن، وهي تؤدي وظيفة دستورية ذات أهمية عظمى في ترتيب القاعدة الشعبية وشوراها، وتقديم مَن يُسمَّون أهل العقد والحل، أو المقدمين من الجماعة أو الأمناء ... إلخ.
ومن هؤلاء، ومن المقدمين أو الأمناء أو أهل الثقة من كل حرفة أو مهنة ... إلخ، يتكون (أولو الأمر) ، وتكون (أولو الأمر) الذين كانوا إلى جانب رسول الله، وكان يرد إليهم في الأمر شؤون الأمن أو الخوف ... إلخ.
إذن، في كل جامع كانت تجري الشورى، وكان يتم تقديم جماعة يثق فيهم مجموع أهل الحي ويأتمنوهم على أمورهم، وفي كل جامع كبير على مستوى أكبر من الحي - وقد يجمع عدة أحياء أو قرية - كانت تتم مشاورة في أمر أوسع نطاقًا أو أكثر أهمية، وكانت تقدم طائفة من أهل العقد والحل أو المقدمين المؤتمنين وأهل الثقة، ومن مجموع المقدمين والمؤتمنين وأهل الثقة من أصحاب الحرف والمهن وما إليها يترشح في كل إقليم (أولو الأمر) .
فالإسلام - بحق - هو الشرع الجماعي، ومن هنا حتى في شؤون الإدارة لم يعرف إلا الإدارة الجماعية، ومن خلال الجماعة، فلا ولي فرد أو وصي، ولا ولاية ولا وصاية.