- وما السبيل إلى منع مجاوزة حدود العدل (ومجاوزة حدود العدل هي الفساد - على ما قالت العرب) ؟.
والجواب - قولًا واحدًا - هو التنظيم القانوني العقلاني والآمر، ومن المقرر أن القاعدة القانونية لها جانب عقلاني (Rational) في تنظيمها أمر من الأمور، ولها جانب آمر (Imperative) ، وهذا الجانب الأخير هو الذي يعطيها قوة الإلزام والنفاذ.
على أنه في ثقافتنا (العربية - الإسلامية - القرآنية التقدمية) فإننا نتصور أن التنظيم الموضوعي العقلاني (بمعنى الذي يعقله العقل، وقد لا ينشئه!) هو الأهم، ويكون الجانب الآمر هو ما تجد العقول نفسه مضطرة لقبوله، والعقل مضطر لقبول الحق.
فثقافتنا (العربية الإسلامية القرآنية - التقدمية) تستند إلى (شريعة) والشريعة في اللسان العربي - وبالمنهج الذي سبق إيضاحه في فهم اللسان العربي - تعني المنطلقات المبدئية أو الأطر المرجعية، فشريعة الماء أو مشرعة الماء هي المواضع التي ينحدر منها.. أو هي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون، (ويقول الأزهري: ولا تسميها العرب شرعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له كماء الأنهار.. أو يكون ظاهرًا يستقي منه) - مثل هذا.. شرعت في هذا الأمر شروعًا: أي بدأت فيه بدءًا، والشارع: الطريق الأعظم الذي يشرع فيه الناس كافة، ودور شارعه -: إذا كانت أبوابها شارعة في الطريق.. أو دنت إلى الطريق وقربت من الناس.. وهذا كله راجع إلى الظهور والإشراف عليه، وقريب منه شراع السفينة لظهوره والشروع في المسير، وكونه مشرعًا نحو وجهة.
فالبدء في السير على أساس من سبق التوجه نحو وجهة شاملة وعظيمة.. هو ما يحدد معنى الشريعة، وهي شريعة محددة ومنهاج مفتوح، أو مناهج مفتوحة.. وكما يقول إخواننا في تونس عن الشارع:(إنه يفتح على عدة أنهج) .
فالشريعة بهذا المعنى هي بحث فيما يعرف في الدراسات المعاصرة بالمشروعية العليا فوق القوانين والدستور (Super Legality - Legalite Superieure) ، لعل أحدث المدارس في هذا الموضوع هي المدرسة التي تتبنى نظرية المؤسسات (Theory De L'institution) ، وقد بدأها العميد (هوربو) وصاغها تلميذه (Renard) وهو يعتبر القانون الطبيعي مجموعة قواعد هذا القانون الطبيعي تنبع من القانون السرمدي، أي من الحكمة الخالقة، أي الله سبحانه وتعالى.
ولا يمكن لشريعة المجتمع أن تكون محل صياغة من لجنة أو مجلس.. إذ كيف تملك إرادة البعض أن تقيد إرادات الآخرين، وأن تسمو عليهم وتفرض عليهم القواعد والنصوص (هذا رأي العميد دوجي) وشريعة بهذا المعنى في أصول الفقه عندنا هي بحث في أول رجوع إليه، وأول مرجوع إليه هو القرآن.. قولًا واحدًا بين جميع الأصوليين.
وهنا، قد يكون من المناسب أن أفرق لبعض رجال الفكر الإسلامي، ولبعض رجال الفكر القانوني أيضًا بين شريعة المجتمع باعتبارها نظرًا في أساس، أو مقياس للقانون، أو نظرًا في قانون القانون.. وبين الحديث عن مصادر القانون، وهنا، وقد يكون من المناسبات أيضًا أن أفرق لبعض رجال الفكر الإسلامي، ولبعض رجال الفكر القانوني، بين قضية أساس النظام القانوني، وبين قضية أساس السلطة وسندها.. فالحديث عن الشريعة هو غير الحديث عن الشورى، كما أنه غير الحديث عن مصادر التشريع!
فالشورى هي أساس السلطة، والقرآن هو أساس التشريع، أما المصادر التشريعية فللمسلمين أن يفيدوا من كل ما تسمح لهم خبراتهم ومعارفهم الإفادة منه، إذا تم بتشاور بينهم، ولم يصادم شريعتهم، أو الأسس والمقاييس والإطار المرجعي.