إنه لتحقيق هذا الغرض استحدثت آليات عديدة، عمل على ضبطها فقهاء مستشارون لدى المؤسسات الإسلامية، منها البيع بالمرابحة للآمر بالشراء، والبيع بالتقسيط، والإيجار المنتهي بالتمليك، والمغارسة على الطريقة المالكية، والاستصناع على المعمول به في مذهب أبي حنيفة وغير ذلك.
إن تلكم العقود هي عقود مقبولة في التشريع الإسلامي، بما وضع لها من الشروط ومن الضوابط المحققة للمصلحة النافية للظلم والفساد، وقد كانت هذه العقود تجري على النمط الاقتصادي الذي كانت تسير عليه الحياة قبل دخول الآلة في الإنتاج، وما ولدته من ثروات ضخمة، وما تبع ذلك من مشاريع كبرى. فتوجه الفقهاء المعاصرون إلى تلكم العقود وطوروها تطويراً يستجيب لواقع الحياة، وينسجم مع الاقتصاد العالمي في حركيته، مع الحرص الكامل على احترام أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.. فما كان مجمعاً عليه أو مستنداً إلى قطعي اعتبروه من الثوابت التي لا يقبل بأي وجه من الوجوه تجاوزها أو عدم احترامها أو التهاون في تطبيقها، وما كان مختلفاً فيه وتعددت في أنظار العلماء الذين يحرص كل واحد منهم على تفهم النصوص وإعمال قواعد الاستنباط منها منطوقاً ومفهوماً وقياساً كما واضح أثره داخل كل مذهب، وهو أوضح وأجلى بين مذهب ومذهب آخر.
وإن التزام أي مذهب التزاماً كاملاً، هو من التزام ما لا يلزم، وتقديس لأقوال البشر الذين يجوز على كل واحد منهم الخطأ والصواب بدرجة متساوية، خذ لذلك مثلاً شركات المساهمة، فالشركة كما كانت في العهد النبوي وما تلاه من العهود، كانت تقوم بين اثنين في معظم الأحوال بينهما تعارف وتآلف، وقلما تجاوزت أو بلغت عدد أصابع اليد، أما اليوم فإن الشركاء قد يبلغ عددهم الآلاف، ولا يعرف الشريك شريكه، ولا يهمه إن كان صالحاً أو طالحاً، كما لا تتأثر الشركة لا بصلاحه ولا بفساده، ولا يمكن لأي دولة أن تسير اقتصادها بفاعلية ونجاح ما لم تنتشر فيها هذه الشركات.
وكذلك تشريع الإجارة قد أفادت منه المؤسسات الإسلامية، وذلك باتخاذه كآلية من آليات النشاط الاقتصادي الذي تقوم به كما قدمناه، وأصله الذي يهدي إليه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فأتاه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أكل تمر خيبر هكذا؟)) قال: لا والله يا رسول الله، لكنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)) (١) ، إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين أن يبيع تمره من الشخص الذي اشترى منه النوع الجيد أو أن يبيعه من غيره، وترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال، فلما كانت الصورة العملية صحيحة فيها بيع تمر بالدراهم وشراء تمر آخر بالدراهم فلا حرمة وإن تفاضلا كماً، ولو وقع ذلك مبادلة لحرم، كما جاء في الحديث –لا تفعل- مع أن الواقع في نتيجة المعاملة واحد.