للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعدما تكلم الكاساني عن الشرط بصفة عامة في ركن البيع، بين مختلف أنواع الشروط ثم قال تحت عنوان: وأما شرائط جريان الربا فمنها: أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط، ويتحقق عنده الربا وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرًا فباع حربيًّا درهمًا بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة، في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف المسلم الأسير في دار الحرب، أو الحربي الذي أسلم هنالك ولم يهاجر إلينا، فبايع أحداً من أهل الحرب ببعض الصفقات المتداولة عندهم، وفيه شبهة ظنية اعتبر مما ألجأته إليه الضرورة.

ووجه قول أبي يوسف أن حرمة الربا، كما هي ثابتة في حق المسلمين، فهي ثابتة في حق النصارى، لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام، ولهما - يعني أبا حنيفة ومحمد – أن مال الحربي ليس بمعصوم بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا أبدله باختياره ورضاه، فقد زال هذا المعنى، فكأن الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وإنه مشروع مفيد بالملك كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه يتبين أن العقد ليس بتملك بل هو تحصيل شرط التملك.

وأنا أرى أن هذا التصور غير صحيح لأن النص في حرمة الربا ورد على عمومه، ولم يخصص فيه حكم ولم يرد عليه استثناء، ولذا فلا يباح للمسلم لا الخمر ولا الخنزير إذا كان في دار الحرب بل إن واجبات الدين وأخلاقيات الإسلام تحتم تجنب المحرمات في كل مكان، وفي أي ظرف وجد فيه المسلم لتجنب النهي من جهة، وليكون قدوة من جهة أخرى، ولا نجاري الكاساني في هذه الأقوال، وفي قوله: إن ملك الحربي لا يزول بدونه، وإذا لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكًا، لكنه إذا زال فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء، لا بالعقد، فلا يتحقق الربا لأن الربا اسم للفضل، يستفاد بالعقد، بخلاف المسلم إذا باع حربيًّا داخل دار الإسلام بأمان، لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلًا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيًّا درهما بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام، فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة ويبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم، إلا الخمر والخنزير.

<<  <  ج: ص:  >  >>