للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الاستظهار غير ظاهر عندي، لأن هذه النصوص تدل على الجراحات التي تترك شيْنًا، أو تفوت جمالًا أو منفعة، أو تحدث ألمًا فيها حكومة العدل. وحكومة العدل، وإن كان فيها معنى التعويض فهي في الحقيقة عقوبة على الجاني كالدية، ويؤيد هذا أن بعض فقهاء المالكية يوجب مع الحكومة أجرة الطبيب وثمن الدواء (١) ، وهذا هو التعويض عن الخسارة المالية التي تحملها المضرور (٢) .

ثم إن النصوص الفقهية التي تدل على منع التعويض في الضرر الأدبي أوضح من هذه النصوص التي استدل بها واضعو المذكرات الإيضاحية على جوازه:

من ذلك ما أورده واضعو المذكرات أنفسهم نقلًا عن (المغنى) لابن قدامة (٦ / ٦٦٥) : وإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان عليه لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة، ولم يكن له جمال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه (٣) .

وقد أورد واضعوا المذكرات الإيضاحية على ما استدل به مانعو التعويض في الضرر الأدبي من أن (التعويض يقوم على إحلال مال محل مال فاقد مكافئ ليقوم مقامه ويسد مسده، أم الضرر الأدبي فلا يتمثل في فقد مال كان موجودًا) ردوا على هذا الاستدلال بثلاثة ردود هذا نصها (٤) .

١- السند في الباب هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو نص عام فقصره على الضرر المادي تخصيص بغير مخصص.

ويرد على هذا بأن هذا النص عام في الضرر المنهي عنه الواجب دفعه أو إزالته، وليس نصًا عامًا في الضرر الذي يجوز التعويض عنه بالمال، فكل ما يصدق عليه: لفظ الضرر منهي عنه بعموم هذا الحديث، وواجب دفعه أو إزالته، وبناءً على هذا الحديث وضع الفقهاء قاعدة: (الضرر يدفع بقدر الإمكان) (٥) . وقاعدة (الضرر يزال) (٦) وليس في الحديث ما يدل على أن التعويض المالي مشروع لإزالة كل ضرر، هذا فضلًا عن أن التعويض المالي لا يدفع الضرر الأدبي ولا يزيله.

٢- ليس المقصود بالتعويض مجرد إحلال مال محل مال، بل يدخل في الغرض منه المواساة إن لم تكن المماثلة ومن أظهر التطبيقات على ذلك الدية والأرش فليس أحدهما بدلًا من مال ولا عما يقوم بمال. ويرد على هذا بما قلناه سابقًا من أن الدية ليست تعويضًا وإنما هي عقوبة من الشارع ومثلها الأرش.

٣- إن القول بعدم التعويض عن الضرر الأدبي يفتح الباب على مصراعيه للمعتدين على أعراض الناس وسمعتهم، وفي هذا من المفسدة الخاصة والعامة ما فيه ما يجعل من الواجب معالجته، ومن أسباب العلاج تقرير التعويض.

ويرد على هذا بأن هذه الحجة مقبولة على أن المانعين للتعويض المالي لم يعالجوا ما يترتب على الضرر الأدبي من مفسدة، ولكن الواقع أنهم عالجوه بعلاج أنجع من علاج القانون وهو التعزير، ولنأخذ مثلًا الضرر الأدبي الذي يصيب الشرف والاعتبار والعرض كالقذف والسب. . . فإن القانون يعالج ما لحق المضرور بالتعويض المالي، والفقه الإسلامي يعالجه بالحد ثمانين جلدة أو بالتعزير بما يراه الحاكم، والعلاج الفقهي أشد درعًا للمفسدين من العلاج القانوني (٧) .

وبناءً على هذا فإني لا أجد لمبدأ التعويض الأدبي على النحو الذي يقرره القانون أصلًا يعتد عليه في الفقه الإسلامي، ولا أرى مصلحة في الأخذ به.

البروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير


(١) ص ٢٩٨ ,٢٩٩؛ وانظر أيضًا نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي، ص ٢٨.
(٢) الدسوقي على الشرح الكبير: ٤ / ٢٤٦.
(٣) المذكرات الإيضاحية للقانون الاردني: ١ / ٢٩٩.
(٤) المصدر السابق: ١ / ٢٩٩ – ٣٠٠.
(٥) مجلة الأحكام العدلية، القاعدة ٣١.
(٦) المصدر السابق، القاعدة ٢٠.
(٧) انظر الضمان في الفقه الإسلامي للأستاذ الخفيف، ص ٥٥ – ٥٧. والنظرية العامة للموجبات والعقود للدكتور صبحي المحمصاني: ١ / ١٧١ – ١٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>