وقد يطالب المشتري في اتفاقيات التوريد بمبلغ عند التوقيع على الاتفاقية، وذلك ضمانًا لجديته في الشراء، وتيسيرًا على البائع للحصول على المبيعات المطلوبة، وإن هذا المبلغ ليس عربونًا على أساس التكييف الفقهي الذي ذكرناه وذلك لأن اتفاقية التوريد ليست عقدًا باتًا، وإنما هي مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل. أما العربون فإنه (عند من يقول بجوازه) بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع اعتبر مبلغ العربون جزء من الثمن، وإن رد البيع كان مبلغ العربون للمالك، يقول ابن قدامة – رحمه الله تعالى -:
" والعربون في البيع: هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع (١)
فتبين أن بيع العربون بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، يقابله شيء من المال في حالة رد البيع فقط، وحيث إن اتفاقية التوريد ليست عقدًا للبيع أو الشراء، وإنما هي مواعدة فقط، فلا يمكن أن نجعل هذا المبلغ عربونًا، ولا مانع من أن يطالب به المشتري ضمانًا لجديته في الموضوع، ولكنه يكون أمانة عند البائع وإن خلطه بماله أو صرفه، فإنه يكون مضمونًا عليه بكامله. نعم إذا تخلف الواعد بالشراء عن وعده بدون عذر مقبول، وحمله الحاكم تعويضًا عن الضرر الفعلي الذي أصاب الفريق الآخر بتخلفه، فإنه يجوز أن تقع المقاصة بين ضمان الجدية وبين التعويض المفروض على الواعد بالشراء، فإن كان التعويض المفروض من الحاكم أقل من المبلغ المدفوع ضمانًا للجدية، رد الواعد بالبيع ما بقي، وإن كان التعويض المفروض أكثر، دفع الواعد بالشراء ما زاد على ضمان الجدية.
وخلاصة ما وصلنا إليه في اتفاقيات التوريد ما يلي:
١- إن كان محل التوريد شيء يقتضي صناعة، فإن عقد التوريد يخرج على أساس الاستصناع، ويكون عقدًا باتًا، وتجري عليه أحكام الاستصناع.
٢- وإن كان محل التوريد شيء لا يقتضي صناعة، فإنه لا يكون عقدًا باتًا، وإنما يكون مواعدة لإنجاز العقد في تاريخ لاحق، ثم يتم العقد في حينه بإيجاب وقبول.
٣- يجوز أن تجعل هذه المواعدة ملزمة للطرفين للحاجة العامة.
٤- إن أثر إلزام هذه المواعدة، أن يجبر كل واحد من الطرفين على إنجاز وعده من قبل الحاكم، وإن امتنع أحد منهما عن الوفاء بوعده، وتضرر به الآخر ضررًا فعليًّا. فإن المتخلف يعوضه عن الضرر الفعلي الحقيقي.
٥- يجوز أن يطالب الواعد بالبيع ممن وعد بالشراء مبلغًا لضمان جديته، وإن هذا المبلغ ليس عربونًا، ولكنه أمانة بيد الواعد بالبيع، وإن خلطه بماله أو تصرف فيه صار ضامنًا له، والله أعلم بالصواب.