للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إن الفقهاء المالكية إنما ألزموا الإيجاب على الموجب في المزاد العلني، الذي يتقدم فيه كل أحد بعطائه عن بصيرة تامة وعن علم بما تقدم به الآخرون، ويرسو العطاء فيه فورًا، أما المناقصات فمعظمها تجري على أساس السرية ويقع البت فيها بعد مدة، وحينئذ قد يضطر فيها صاحب العرض إلى سحب عرضه لتقلبات الأسعار في السوق أو لأعذار أخرى حقيقية، فلا تقاس المناقصة السرية على المزاد العلني الذي يقع فيه البت في المجلس.

هل العرض الأقل لازم على صاحب المناقصة؟ !

ومن النتائج المنطقية لجعل العرض إيجابًا، أن يحق لصاحب المناقصة أن يقبل ما شاء من عطاء ويرفض ما شاء، وبهذا صرح الفقهاء المالكية في المزايدة، فقال ابن رشد رحمه الله:

" وهو (أي البائع في المزايدة) مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه، هذا الذي أحفظ في هذا من قول الشيخ أبي جعفر بن رزق رحمه الله، وهو صحيح في المعنى، لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له بع سلعتك من الذي زاد علي فيها لأنك إنما طلبت الزيادة وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها " (١)

فلو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول، جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعره أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن وأوثق بالنسبة لمن عرض سعر أقل، ولكن بما أن المناقصات تجري عمومًا من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الكبرى التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس، فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ، والرشوة وغيرها، فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها من التواطؤ والرشوة.

هذا كله بالنسبة للمناقصات التي موضوعها عقد بات، كالبيع أو الإجارة، أو المقاولة والاستصناع. أما إذا كان موضوعه توريد أشياء غير مملوكة للبائع، فقد ذكرنا فيما سبق أن اتفاقية التوريد في هذه الحالة مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل. فليس هناك إيجاب وقبول لإنجاز العقد في هذه المرحلة، وإنما الإعلان الصحفي لمثل هذه المناقصة دعوة للتجار للدخول في مواعدة أو التفاهم العام، ولكن لا بأس أن تتخذ لها جميع الإجراءات التي ذكرناها، بشرط أن لا يظن أن إرساء العطاء عقد بات للبيع مضاف إلى المستقبل، بل يرسو العطاء على أنه مواعدة من الطرفين ملزمة عليهما، لإنجاز البيع في تاريخ مستقبل. وقد فصلنا الفرق بين الأمرين عندما تكلمنا عن التوريد.


(١) البيان والتحصيل، لابن رشد، ص ٤٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>