للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يضيف العلامة الحطاب تأييده لهذا البيع بقوله: " وأنا أراه حسنًا معناه، وأنا أجيز ذلك استحسانًا اتباعًا لعمل أهل لمدينة، وإن كان القياس يخالفه " (١) .

وقد نص على هذا في المعتمد من المذهب، قال العلامة الزرقاني في شرحه على خليل بقوله: " وجاز الشراء من دائم العمل كالخباز وهو بيع. . . (و) جاز (الشراء من دائم العمل) حقيقة، وهو من لا يفتر عنه غالبًا، أو حكمًا ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده فيشبه تعيين المعقود عليه حكمًا في الصورتين، فعلم أنه لابد من وجود المبيع عنده، أو كونه من أهل حرفته، والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام، أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينًا، وليس لأحدهما الفسخ في الأولى دون الثانية، وشملهما تمثيله بقوله (كالخباز) والجزار بنقد وبغيره، لقول سالم بن عمر: كنا نبتاع اللحم من الجزارين، أي بالمدينة المنورة، بسعر معلوم كل يوم رطلين، أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن من العطاء معروفًا، أي ومأمونًا، ولا يضرب فيه أجل لأنه بيع كما قال (وهو بيع) فلا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل الثمن فيخالف السلم في هذين، وفي فسخ العقد بموت البائع في الصورة الثانية لا الأولى، وفي كيفية الشراء، وفي أنه يشترط هنا الشروع في الأخذ ولو حكمًا كتأخيره خمسة عشر يومًا، واستخفوا ذلك للضرورة، فليس فيه ابتداء دين بدين. . . " (٢) .

هذه جملة الصورة الشائعة في عقد التوريد في الوقت الحاضر، وهي التي تندرج تحت تعريفه وأحكامه.

وجود السلعة في (المبيع الغائب على الصفة) شرط في صحة العقد لدى المذهب المالكي بخاصة والمذاهب الموافقة له بعامة، غير أن العلامة ابن القيم رحمه الله لا يرى الإلزام بهذا الشرط إذا خلا العقد من الغرر – كما سبق عرضه (٣) في النص التالي:

" ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي، عن بعض الأشياء الموجودة فليس العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا " (٤) .

وإن خلو عقد التوريد من الغرر بمعانيه المتعددة السابقة واللاحقة ومن الجهالة، ومن المحظورات الشرعية الأخرى كالربا والميسر ينفي عن أسباب الفساد والبطلان، وهو ما ينسجم مع القواعد الكلية الأصولية. يقول العلامة محمد علي بن حسين المالكي المكي:

" قسم مالك رحمه الله تعالى التصرفات إلى ثلاثة أقسام:

أحدهما: معاوضة صرفة يقصد بها تنمية المال، فاقتضت حكمة الشرع أن يجتنب فيها من الغرر والجهالة ما إذا فات المبيع به ضاع المال المبذول في مقابلته، إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام: أحدهما: مالا يحصل معه المعقود عليه أصلًا، والثاني: ما يحصل معه ذلك دينًا ونزرًا، والثالث: ما يحصل معه غالب المعقود عليه، فيجتنب الأولان، ويغتفر الثالث.


(١) مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء خليل: ٤ / ٥٣٨.
(٢) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل: ٥ / ٢٢١.
(٣) ص ٤٠٦ من هذا البحث.
(٤) إعلام الموقعين: ٢ / ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>