ونقلت عدة نصوص للفقهاء الآخرين ولا حاجة لذكر جميعها، وقد ذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري في (الوسيط) إنه إنما يكون التقدم بالعرض في الإيجاب، ثم يعقبه القبول.
المسألة الثالثة: هل يصح رجوع صاحب العرض عن إيجابه قبل أن يرسو عليه العطاء؟ فلما كان التقدم بعطاء إيجابًا فالظاهر من ضوابط الإيجاب الفقهية أنه يجوز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل رسو العطاء الذي يعتبر قبولًا في بيع المزايدة. وعلى هذا جرى القانون المصري كما ذكره الدكتور السنهوري في (الوسيط) ولكن يظهر من كتب المالكية أن الذي يتقدم بالعطاء في المزايدة – وهو المؤجل – لا يحق له الرجوع من إيجابه إلا أن يرسو العطاء.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:" والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطي فيها ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة ". وبمثله ذكر الحطاب ونقلت نصه.
فظهر بهذا أن المالكية فرقوا بين بيوع المساومة العامة وبين المزايدات، حيث يحق للمشتري في المساومة أن يرجع عن إيجابه متى شاء قبل قبول البائع، ولا يحق له ذلك في بيوع المزايدة، وهو الموقف الذي اختاره الشيخ حسن الجواهري في بحثه أيضًا.
ولا شك أنه لا فرق بين المزايدة والمناقصة في هذا الموضوع، فينطبق عليها جميع أحكام المزايدة من هذه الجهة. فمقتضى القواعد العامة أن يجوز لمن تقدم في المناقصة بعطاء أن يرجع عن إيجابه قبل رسوَّ العطاء، ولكن مقتضى ما ذكره المالكية أنه لا يجوز له الرجوع بعد تقدمه بالعرض. وعلى هذا الأخير جرت معظم قوانين المناقصة المعاصرة. وبما أن المسألة اجتهادية فهناك سعة بأخذ ما فيه مصلحة. ولكن الذي يظهر لي أن القول بإعطاء صاحب العرض الحق في الرجوع أعدل وأقيس، لأننا متى جعلنا عرضه إيجابًا فلا وجه لحرمانه من الحقوق التي يستحقها الموجب في البيوع الأخرى.
ثم إن فقهاء المالكية إنما ألزموا الإيجاب على الموجب في المزاد العلني الذي يتقدم فيه كل أحد بعطائه عن بصيرة تامة وعن علم بما تقدم به الآخرون، ويرسو العطاء فيها فورًا. أما المناقصات فمعظمها تجري على أساس السرية ويقع البت فيها بعد مدة، وحينئذ قد يضطر فيها صاحب العرض إلى سحب عرضه لتقلبات الأسعار في السوق أو لأعذار أخرى حقيقية، فلا تقاس المناقصة السرية على المزاد العلني الذي يقع البت فيه في المجلس.
المسألة الرابعة في موضوع المناقصات هي: هل العرض الأقل لازم على صاحب المناقصة؟
ومن النتائج المنطقية لجعل العرض إيجابًا أن يحق لصاحب المناقصة أن يقبل ما شاء من عطاء ويرفض ما شاء. وبهذا صرح فقهاء المالكية في المزايدة فقال ابن رشد رحمه الله:" وهو – أي البائع في المزايدة – مخير في أن يمضيها لمن شاء فمن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه ".
فلو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعره أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن وأوثق بالنسبة لمن عرض سعرًا أقل. ولكن بما أن المناقصات تجري عمومًا من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الكبرى التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ والرشوة وغيرها. فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها من التواطؤ والرشوة.