للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمر الثاني الذي ذهب إليه الشيخ العثماني في تكييف عقد التوريد قال: " إنه اتفاق مواعدة من الطرفين " فأخرجه عن العقدية وربطه بالاتفاق والمواعدة وأخذ يستدل على لزوم هذه المواعدة بكلمات بعض الفقهاء الحنفية في بيع الوفاء بأن الشرط إذا كان على وجه المواعدة من الطرفين فهي لازمة. وأيضًا استدل ببعض الكلمات للمالكية في بيع الوفاء أيضًا بأن المشتري إذا وعد البائع بأنه سوف يبيعه إذا جاء بالثمن فإن هذا الوعد صحيح ولازم. ومقصوده – حفظه الله – من هذا الاحتجاج بكلمات هؤلاء الفقهاء هو تقنين قاعدة تنص في حالة اعتبار حاجات الناس على إلزام ما لم يكن لازمًا في الأصل، وبما أن عقد التوريد هو من حاجات الناس فتكون المواعدة فيه لازمة. واستدل ثانيًّا بما ذكره الإمام أبو بكر الجصاص في تفسيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢] في مثل النذور والعقود التي يتعاقد بها، إذ كل ما قاله في النذر الذي ليس بمعصية وفي العقد الذي تعاقد به يلزمه الوفاء به حتى لا يكون مصداقًا للذم الذي ذكرته الآية فيما إذا لم يعمل به.

أقول: هذا الاستدلال قد يكون بعيدًا عن الصواب إذا اعتبر المواعدة لازمة وأبعدها عن العقد بموجب ما قاله بعض الفقهاء. طبعًا ليس أقوال الفقهاء وحدها كافية للاستدلال بل لابد من دليلهم وتبنيه وتأييده. ثم الذي جعل هذه الموافقة على إنجاز عقد التوريد لازمة ما هو؟ فيما أعتقد هو وصول الموافقة والمواعدة إلى حد العهد والعقد فشملها {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، إذن لا داعي للتهرب من عقديتها وعهديتها فإنها عقد وعهد ناجز. فكل من الطرفين في عقد التوريد قد التزم بشيء يعمله وهو عقد وعهد لأنه عبارة عن التزام في مقابل التزام وهو معنى العقد والعهد إذا ثبت أن هذه الموافقة عقد وعهد – كما ذكر ذلك الشيخ العثماني – فلا حاجة إلى جعلها مقدمة لإيقاع عقد التوريد فيما يأتي من الزمان، بل نعقد عقد التوريد على تمليك سلعة موصوفة في ذمة زيد بثمن موصوف في ذمة عمرو ويكون العقد ناجزًا وحالًا، إذ كل واحد قد ملك في ذمة الآخر شيئًا حالًا، نعم، أما التسليم والتسلم فهو يتم في مراحل متأخرة ونجوم معينة بعد تمامية العقد، وقد تعقبنا هذا حتى في بيع النقد، أن العقد يتم ولكن التسلم والتسليم قد يتأخر، نعم، يقف في وجه هذا التكييف النهي الوارد عن بيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين، الذي عمل به الجمهور. فهل نتمكن من جعل موردنا مختلفًا عن بيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين؟ أو هل نتمكن من الخدشة في سند هذين الحديثين أم لا؟ هذا هو البحث الحقيقي في بيع التوريد ليس إلا. ثم أتصور أن الشيخ العثماني يمكنه أن يستدل على جعل المواعدة لازمة بطريق آخر مناسب مثل أن يتمسك بحديث ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) .

هذا ما أردنا بيانه ولنا كلام عن الدكتور رفيق المصري إلا أن الوقت ليس بكاف، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>