للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الأول

موقع القرائن بين أدلة الإثبات

١- لا ريب أن العدالة تعد من أسمى الطرق لنشر الإسلام بين الناس، كما لا ريب أيضا في أن القضاء هو الوسيلة الأولى لهذه العدالة في الفصل بين المتخاصمين، وأن البحث عن الحقيقة وإقرارها هو رسالة هذا القضاء: في طرقه وفي غاياته.

فتلك أمورا اجتمعت عليها البشرية قاطبة منذ أن ترك الإنسان البداوة وانتظم في مجتمعات، فلا تكاد تخرج عليها أي شريعة من الشرائع، وإن كانت قد تختلف مع بعضها البعض في الوسائل، بسبب اختلافها في الفلسفات التي تتحكم فيها، وفي القيم التي تسعى لتحقيقها، وفي المبادئ التي تقيد مسيرتها.

وقد كان لهذا الاختلاف أثره على الطرق التي اتبعها القضاء في الإثبات فتعددت وتباينت، غير أن التقاءها في الهدف نحو الوصول إلى الحقيقة، جمع بينها في اتجاهات متقاربة، تبلورت في نظم ثلاثة للإثبات:

أولها نظام الإثبات المقيد، وفيه يحدد النظام للقاضي، سلفا، الأدلة التي يجوز أن يستند إليها في حكمه، والشروط التي يجب أن يخضع لها كل دليل، وقيمته الإقناعية، دون أن يأبه كثيرا باقتناع القاضي أو وزنه للأمور المعروضة عليه.

فإذا جعل النظام الشهادة دليلا على دعوى معينة، ووضع لها نصابا، ولم يتوافر هذا النصاب، فلا يحق للقاضي أن يجيب المدعي إلى دعواه، ولو كان مؤمنا بصدق هذه الدعوى لأدلة أخرى.

وثانيهما: هو نظام الإثبات المطلق، وفيه يتحرر الخصوم من كل القيود التي تحدد طريقهم في الإثبات، فيكون لهم حق الالتجاء إلى أي دليل يمكنهم من إثبات دعواهم، كما يتحرر القاضي من التقيد بأي أدلة محددة قد تدفعه إلى الحكم بغير ما يقتنع به، بل إنه لا يتقيد بأن يكون الدليل مباشرا، وإنما يجوز له أن يعتمد على دليل غير مباشر: لا يكون شاهدا بذاته على الحقيقة التي ينشدها، وإنما يحتاج في دلالته عليها إلى وسائط تؤدي دور المعالم على طريق العدالة، فترشد إليها، أو تتفاعل مع غيرها في هذا السبيل، تفاعلا يمليه العقل الراجح والمنطق السليم.

<<  <  ج: ص:  >  >>