ولا شك أن الأمر قبل ذلك وبعده مرجعه إلى إعمال الفكر على هدي الاستعداد الفطري والخبرات العملية مما تتفاوت فيها الأفهام وتختلف عليه العقول، كما يدل على ذلك ما ساقه الإمام الحنفي ابن الغرس من مثال لقرينة قوية تدل على نسبة القتل إلى شخص معين، فقال: إذا خرج إنسان من دار مضطربا خائفا، وملابسه ملوثة بالدماء، ويحمل سكينا كذلك ملوثة بالدماء، فدخل الناس الدار فور خروجه، فوجدوا شخصا مذبوحا مضرجا بدمائه، ولم يجدوا في الدار غير هذا الذي خرج بهذه الهيئة، فهذه الأوصاف قرينة قوية على أن هذا الذي خرج هو الذي قتل، واحتمال أن يكون قد قتل نفسه أو أن يكون آخر قتله وتسور الجدار وفر هاربا، احتمال لا يلتفت إليه، لأنه احتمال غير ناشيء عن دليل.
فهذا الاستخلاص الذي رآه الإمام ابن الغرس كان محل جدل عقلي بين علمائنا الأفاضل، فصادقه عليه بعضهم وناقضه آخرون، وما ذلك إلا بسبب الاختلاف في الاعتداد ببعض الاحتمالات أو إهدارها لافتقادها الدليل (١) .
(١) جاء مثال ابن الغرس (محمد بن محمد بن خليل) في كتابه الفواكه البدرية المطبوع مع المجاني الزهرية لمحمد بن عبد الفتاح بن محمد بن الجارم مطبعة النيل وغير موضح الطبعة أو السنة، ص٨٣، ٨٤. - وقد لخص الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في كتابه النظام القضائي في الفقه الإسلامي (دار البيان- بمدينة نصر- الطبعة الثانية (١٩٩٤م) ، ص٤٤٩ وما بعدها،وص ٤٥٦) لخص فيه آراء من اتفق من العلماء مع ابن الغرس في قوة دلالة القرينة في المثال الذي ذكره، ومن عارضه في ذلك بما فيهم صاحب تكملة ابن عابدين.