للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٠- وإذا كان التقاط واقعة (الأمارة) من بين أوراق الدعوى وظروفها وملابساتها يحتاج إلى صبر القاضي وخبرته، فإن استنباط الواقعة المراد إثباتها من الأمارة يستلزم دقته البالغة:

فصلة الأمارات بالوقائع المراد إثباتها ليست دائما على درجة واحدة من القوة، فمنها القوي الذي يؤكد معنى محددا لا يحيد عنه، ومنها الضعيف الذي يوهم بدلالة لا يحق الالتفات إليها: فمجرد بكاء المتهم لا يصح أن يكون له أثر في الاستنباط العقلي، فقد سبق أن بكى إخوة يوسف عليه السلام يوم أن جاؤوا على قميصه بدم كذب، كما سبق لإبراهيم عليه السلام أن أعطى نموذجا لدلالة موهومة، تشير إلى أن كبير الأصنام التي يعبدها قومه يملك من أمرهم شيئا، وذلك بأن كسر هو عليه السلام الأصنام كلها ما عدا هذا الكبير الذي علق في عنقه الفأس، حتى إذا رأى القوم ذلك، ثم اكتشفوا أن الصنم لا ينطق، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ثابوا إلى رشدهم وأقلعوا عن عبادة الأصنام (١) .

واصطدام الواقعة المختارة، فيما قد تومئ إليه، بدليل آخر أو بقرينة غيرها يقتضي إعمال أسس الترجيح بينها والأخذ بما هو أقوى وأكثر قبولا، فقد سبق أن تعارض الشبه مع الفراش، في قصة سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة فغلبت قرينة الولد للفراش (٢) ، كما سبق أن تعارضت الدلالة المستفادة من وجود دماء على قميص يوسف مع عدم تمزق هذا القميص، فرجحت القرينة الثانية بما تدل عليه من عدم صدق ما قيل من أكل الذئب يوسف عليه السلام.


(١) الآيات من ٥١ حتى ٦٧ من سورة الأنبياء- التفسير الوسيط للقرآن الكريم- تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية- الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية سنة (١٩٨٣م) - المجلد الثاني، ص١١٢٦ وما بعدها.
(٢) ابن القيم- الطرق الحكمية- مرجع سابق ص٢٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>