للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس بلازم أن يكون مصدر الأمارة واقعة واحدة ذات مدلول واحد يقطع في الدلالة عليه، كوجود بصمة للمتهم في مكان الحادث، وإنما يجوز أن تكون جملة وقائع لا تكفي واحدة منها بمفردها لاستنباط القرينة، وإنما يتحقق ذلك منها مجتمعه، وذلك على نحو ما مثل به الإمام الغزالي في (المستصفى) من قوله: (إنا نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى؛ فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور، ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم، ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما، مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن، ولكن ينضم إليه أن المرأة شابة لا يخلو ثديها عن لبن، ولا تخلو حلمته من ثقب، ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج اللبن، وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا، وإن لم يكن غالبا، لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه، مع أنه لم يتناول طعاما آخر، صار قرينة، ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله، ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم تشاهده، وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات، ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتوافرها، وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال، كقول كل مخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلم) (١) .

على أنه مع إطلاق يد القاضي في التقاط الأمارة، فإن عليه أن يتحقق من استيفائها للشروط اللازمة لأدائها للمهمة التي استخرجت من أجلها وعلى الأخص ما يتصل بثبوتها وصحتها، إذ القرينة دليل، وهو لا يبنى على غير ما هو ثابت يقينا، وصحيح قطعا: فواقعه ضبط المسروقات في حوزة المتهم لا تصلح أمارة إلا إذا كانت قطعية الثبوت مطابقة للواقع الحقيقي، فإذا قام شك في افتعالها أو في مطابقتها للحقيقة التي وقعت فعلا، فإنها لا تصلح أساسا للقرينة، كما حدث مع بنيامين أخ يوسف عليه السلام من وضع السقاية في رحله دون علم منه، أو ما حدث في قصة طعمة بن أبيرق، حين ألقى بالدرع المسروق في بيت رجل بريء (٢) .


(١) الإمام أبو حامد الغزالي- المستصفى من علم الأصول المطبعة الأميرية ببولاق- الطبعة الأولى- المجلد الأول، ص١٣٥، ١٣٦.
(٢) تفسير القرآن العظيم- لابن كثير- مطبعة الشعب- المجلد الثاني، ص١٢ عند تفسير الآية (١٠٥) من سورة النساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>