فالاستدلال بالقرائن، إذن يقوم على عمادين اثنين، أولهما التقاط واقعة قريبة من الواقعة المراد إثباتها، وثانيهما، استنباط الدليل على وجود الواقعة الأصلية من ثبوت هذه الواقعة القريبة.
وعبء الكشف عن هذين الأمرين كليهما، هو بلا ريب، واقع في جانب منه على الخصوم أنفسهم، وعلى معاوني القضاء الجنائي من خلال التحري عن الجرائم أو تحقيقها، كما أن القواعد الشرعية قد تسهم إسهاما مباشرا في هذا الشأن بما تقدمه من استخلاصات لنتائج قد تكون قاطعة ملزمة أحيانا، وقد تقبل إثبات العكس أحيانا أخرى.
غير أن العبء الأكبر في هذه القرائن: إنما يقع على القاضي نفسه سواء فيما يتعلق بالواقعة القريبة أو بالاستنباط منها، وقيامه بهذه المهمة الشاقة لايستقيم إلا إذا أطلقت يده في اتجاه الهدف الذي يسعى إليه.
٩- ومن ثم فإن من المسلم به أن للقاضي أن يلتقط ما يشاء من وقائع يراها معينة له على طريق الوصول إلى الواقعة المراد إثباتها سواء أكانت شخصية، كما لو كانت تصم المتهم بأنه من أرباب السوابق أو على خصومه ثأرية مع المجني عليه، أو كانت موضوعية: سابقة أو معاصرة أو لاحقة، داخلة في صميم الدعوى أم خارجة عنها.
وللقاضي كذلك أن يختار هذه الواقعة من أي مصدر يراه، سواء أكان معاينة أم أعمال خبرة، أم تقارير فنية أم غير ذلك بل إن له أن يختارها من دليل مباشر يقدم إليه في الدعوى، كأن يستشف من أقوال الشهود أن المتهم كان يحوم حول مكان الحادث قبيل وقوع الجريمة، أو يأخذ من الإقرار ما يشهد للمقر بعدم التزامه بأكثر مما أقر به، وذلك على نحو ما كان يطبقه إياس بن معاوية من أنه إذا اقر الخصم بشيء ليس عليه بينة فالقول كما قال لا يزاد عليه (١) .
بل إن القاضي ليستطيع أن يختار أمارته من دليل لم يستكمل شروط صحته فلا بأس عليه أن يستند إلى ما كشف عنه تجسس منهي عنه شرعا، للقضاء ببراءة المتهم مما نسب إليه.