للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخاتمة

٣٢- لا جدل في أن منهج الشريعة الإسلامية في الإثبات القضائي هو التيسير على الناس، بتنويع الدليل، وتوفير البديل لما يتعذر الحصول عليه عند الضرورة أو الحاجة: فإذا تعذرت الشهادة المبنية على المعاينة والمشاهدة، أمكن في نطاق ما تسمح به العدالة - أن يكتفى بالشهادة بالتسامع أو الشهادة على الشهادة- وإن تعذر نصاب الشهادة، أمكن الاكتفاء بأقل منه، كشهادة المرأة الواحدة في الحالات التي لا يطلع عليها غير النساء، وإن تعذر الدليل المباشر كله، أمكن الالتجاء إلى القرائن ليستعان بثبوت واقعة يمكن الوصول إليها، في إثبات الواقعة المنتجة في الدعوى، اعتمادا على الرابطة الوثيقة التي تربط بين الواقعتين والتي تجعل من الواقعة الأولى أمارة على وجود الواقعة الثانية.

وجريا على ذلك النهج، فإن الشريعة الغراء- وفقا للرأي الراجح - لا تحصر الأدلة في نطاق محدود لا يجوز للقاضي ولا للخصوم تجاوزه، فالبينة المطلوبة من المدعي تشمل كل ما يبين الحق ويظهره، والحقيقة التي يتعين عليه إثباتها هي الحقيقة القضائية التي يساندها الظاهر ولا تناقضها شواهد الحال التي تنقص من قوتها: فليس على القاضي بأس من أن يأخذ بأقوال الشهود العدول المزكين، إذا اطمأن، إلى شهادتهم، وإن كان العقل لا يمنع من احتمال كذبهم أو خطئهم، لسبب أو لآخر، كذلك ليس عليه حرج في أن يستند إلى الغالب الراجح الذي تعارف عليه الناس في صورة ظاهرة ملموسة، إذا تعذر الوصول إلى اليقين المطلق، طالما كان من حق المتضرر أن يثبت أن الحالة المعروضة هي من الحالات النادرة، التي لا تخضع- استثناء- لهذا الغالب الراجح، ولا يحال بين القاضي وبين هذا الطريق، إلا حين يتجه إلى الإدانة في المسائل الجنائية، إذ عليه في هذه الحالة أن يستخلص وجود الواقعة التي تثبت أركان الجريمة الجنائية ونسبتها إلى فاعلها، من أدلة لا يرقى إليها أي شك، ولو كان شكا لا يسانده دليل، أما الغالب الراجح، فإنه وإن كان يمكن أن يستند إليه مرحليا، فإنه لا يحق له الاستناد إليه وحده، اعتمادا على مجرد عجز المتهم عن تقديم الدليل العكسي، لما في ذلك من قلب لعبء الإثبات وإلقائه على عاتق المتهم الذي يشهد له أصل البراءة، فضلا عما فيه من مخالفة للقاعدة التي تقضي بأن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>