للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السياسية النقدية في الإسلام على ضوء الكتاب والسنة:

عني العلماء المسلمون بالسياسة النقدية وأولوها عناية كبيرة، وناطوها بالإمام ضمن وظائفه السلطانية، قال الإمام أحمد: " لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إن رُخص لهم ركبوا العظائم، فقد منع من الضرب بغير إذن السلطان؛ لما فيه من الافتيات عليه ". (١) ولما فيه من المخاطر العظيمة، كما أوجبوا على الدولة الإسلامية أن توفر للنقود جوًا من الاستقرار والثبات، وتبعد عنها كل الوسائل المؤدية إلى اضطرابها وتذبذبها، ولذلك حُرِّم الغش فيها، وشُدِّدَ في ذلك أكثر من غيره، باعتبار أن النقود معايير للأشياء، فأضرار الغش فيها أكثر خطورة، وأشد ضررا وإضرارا، يقول ابن خلدون: " ولفظ السكة كان اسما للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها، وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه، وهي الوظيفة، فصار عَلَمًا عليها في عرف الدولة، وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان " (٢)

وقد نهى القرآن الكريم عن الغش في الكيل والميزان وبخس النقود فقال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: ٨٥] ، وقال تعالى على لسان شعيب أيضا: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: ٨٥] . وقد ذكر المفسرون أن المراد بالبخس هو قطع الدراهم والدنانير والإنقاص منها والغش فيها، يقول القاضي أبو بكر: " قال ابن وهب: قال مالك: كانوا – أي قوم شعيب – يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماع من المفسرين المتقدمين، وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم؛ لأنها الواسطة في تقدير قيم الأشياء، والسبيل إلى معرفة كمية الأموال، وتنزيلها في المعاوضات حتى عبر عنها بعض العلماء بأنها القاضى بين الأموال عند اختلاف المقادير، أو جهلها، وإن حبسها ولم يصرفها، فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس، والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحا قام معناها، وظهرت فائدتها، فإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت الفائدة فيها، فأضر ذلك بالناس، فلأجله حرم. وقد قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم.

وقد قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: ٤٨] .


(١) الأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى، ط. مصطفى الحلبى، ص ١٨١؛ وراجع المجموع للنووى.
(٢) المقدمة، ط. عبد السلام بن شقرون بمصر، ص ٢٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>