للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانيًا: مبدأ عدم الإضرار الذي تدل عليه الآيات الكثيرة، والأحاديث النبوية الشريفة حتى أصبح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (١) قاعدةً فقهية كلية، نالت القبول عند جميع الفقهاء، بل جعله الشاطبي من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (٢) مثل قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: ٢٣١] ، وقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: ٦] وقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: ٢٣٣] .

إلى غير ذلك من الآيات التي منعت الضرر إطلاقًا حتى بين الوالد وولده، وأما السنة فقد أكدت هذا الجانب بما لا يمكن إحصاؤه في هذا المجال، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه أن يقلع شجرة شخص؛ لأنها كانت تضره وعَلّل ذلك بالضرر، حيث روى أبو داود بسنده أن سمرة بن جندب كانت له شجرة نخل في حائط – أي بستان – رجل من الأنصار مع أهله، فكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذى به الأنصاري ويشق عليه. فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، فأبى، فقال: ((أنت مضار)) فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) (٣) وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه)) (٤)

ومن هذا المنطلق، فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة الشرعية، ولا التطبيقات مناقضة للأصول العامة المقررة، يقرر القرافي أن الكليات المقررة في الشريعة هي أصولها، وأن الجزئيات مستمدة من هذه الأصول الكلية، شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلًا في جزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه (٥) .

فعلى ضوء ذلك، فالقول بمثلية النقود الورقية واعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، أو حتى في أكثرها ما دام يترتب عليه هذه المظالم لأصحاب الحقوق، وهضم حقوقهم لا يتفق مع هذه المبادئ العامة التي ذكرناها.


(١) رواه مالك في الموطأ، ص ٤٦٤؛ وأحمد في مسنده: ١ / ٣١٣؛ وابن ماجة في سننه: ٢ /٧٨٤.
(٢) الموافقات: ٣ / ٩ – ١٠.
(٣) رواه أبو داود في سننه – مع العون – كتاب الأقضية: ١٠ / ٦٤.
(٤) المصدر السابق نفسه.
(٥) الموافقات: ٣/ ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>