للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه المناقشة التي يمكن تقديمها والدفاع عنه من وجهة النظر الاقتصادية الموضوعية لن تتعارض، بل هي قريبة جدًا من جوهر ما قدمه بعض فقهاء المسلمين قديمًا، فعند إمام الحرمين شرط المثلي تساوي الأجزاء في القيمة والمنفعة، وعند الإمام الغزالي تماثل الأجزاء في القيمة والمنفعة من حيث الذات لا من حيث الصنعة (١) . ونجد أن جوهر التعريفيين واحد، ويتعلق بالمعنى أو المضمون وليس بالشكل أو الصورة. وقول الإمام الغزالي: من حيث الذات لا من حيث الصنعة، يؤكد تعلق المفهوم بالمعنى وليس بالشكل (٢) . فإذا تم قياس القيمة أو المنفعة تبعًا لقدرة النقد على شراء أو حيازة السلع أو الأصول الأخرى، فإن المثلية تتعيب قطعًا، وربما فُقدت مع استمرار الأسعار في الارتفاع بمعدل ملحوظ على مدى الزمن.

وعند الكاساني (المثل المطلق) هو المثل صورة ومعنى، فأما القيمة فمثل من حيث المعنى، دون الصورة (٣) ، والقصد من هذا أن مفهوم المثلية يكتمل بتماثل المعنى وهو الجوهر أو المضمون، والذي يقاس بقيمة الشيء مع الصورة أو الشكل. ويفهم من هذا أن الصورة وحدها لا تفي بالمثلية، وكذلك القيمة وحدها، وفي إحدى عباراته يؤكد أن " الجبر بالمثل أكمل منه من القيمة، فلا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند التعذر ". ولو طبقنا هذا على النقود الورقية لقلنا: إن اكتمال المماثلة يتحقق أولًا بالصفات الشكلية الدقيقة للورقة النقدية من حيث نوعية الورق المستخدم في صناعتها وألوانها، وغير ذلك من علامات مميزة تجعل تزويرها صعبًا، بالإضافة إلى الأرقام التي تُثبت رسميًا محل وزمان إصدارها وقيمتها الاسمية وتوقيع محافظ البنك المركزي نائب عن الدولة في سلطة الإصدار، ويتحقق ثانيًا باستقرار القيمة، والتي تتعين باتفاق الاقتصاديين جميعًا بالقوة الشرائية، أي القدرة على حيازة الأشياء الأخرى، فإذا تغيبت الصفات الشكلية ستتعرض الورقة النقدية للرفض من قِبل المتعاملين، وكذلك نفس الشيء بالنسبة للقيمة. وفي مجتمعاتنا المعاصرة يفطن معظم الناس إلى تعيب الشكل بالنسبة للنقد الورقي (خاصة الوطني) ، ولكن قد لا يفطنون إلى تعيب القيمة، حيث يحدث على التدريج غالبًا إلا في حالات التضخم الجامح ... فالواجب الشرعي إذا كان الأمر كذلك تنبيه الناس إلى تعيب القيمة في النقد وإرشادهم إلى كيف يتصرفون بإزائه، وهذه مسئولية الحكومة (٤) .


(١) انظر محيي الدين القره داغي، سبق ذكره، ص ١١٨، وذلك عن فتح العزيز: ١١ / ٢٦٦ – ٢٦٩؛ والوسيط: ٢ / ١٢٤.
(٢) وقصد الغزالي بهذه الزيادة الاحتراز من الملاعق والمغارف وصنجات الميزان المتساوية، فإن تساويهما جاء في حفظ التشابه في الصنعة، وإلا فالمصنوعات مختلفة في الغالب – المرجع السابق، ص ٨٨.
(٣) الكاساني، بدائع الصنائع: ٩ / ٤٢١.
(٤) نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم بيان عيب المبيع: ((لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيّن ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بيّنه)) (الحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح الإسناد – الترغيب والترهيب: ٤ / ٢٥٨٥ في باب الترهيب من الغش) وقد روى أحمد والطبراني الحديث بلفظ ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعًا ألا يبينه)) (الترغيب والترهيب: ٤ /٢٥٨٦) فكيف بالنقد إذا أصبح معيبًا وهو الذي يشترى به جميع السلع.

<<  <  ج: ص:  >  >>