للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والآن نحن في مجال النقد المصرفي لا نستطيع إطلاقًا أن نؤيد أو نوافق على الآراء الفقهية التي تحاول قياس كل ما يستجد من إشكال النقود على الذهب والفضة أو الفلوس، فالنقد المصرفي له خواص مستقلة تمامًا ونظام مختلف تمامًا عن نظام المعدنين، ويجب أن نجابه الأمور مجابهة موضوعية على أسس علمية رصينة، فهل النقد المصرفي يؤدي وظائف النقد وهي الوساطة في المبادلات وقياس القيم وخزن الثروة أو القيمة بكفاءة؟ وهل وحدات النقد المصرفي مثلية أم قيمية؟ وسوف نجد الإجابات واضحة إذا لم نحول في كل مرة تعقيد الأمور والرجوع إلى آراء فقهية قديمة وغير مناسبة إطلاقًا للمشكلة المطروحة للقياس عليها. فالنقد المصرفي نائب عن النقد الورقي، ويؤدي بكفاءة أكبر منه وظائف الوساطة في المعاملات الضخمة. أما بالنسبة لقياس القيم وخزن الثروة فلا يختلف النقد المصرفي عن النقد الورقي في قياس القيم العاجلة أو الآجلة وحفظ الثروة بكفاءة تامة، طالما كانت الأسعار مستقرة.

أما إذا كانت الأسعار تتغير في الأجل الطويل بشكل ملحوظ، فإن النقد المصرفي يتعرض لنفس ما يتعرض له النقد الورقي. ولا يستطيع أحد أن يقول: إن النقد المصرفي مثلي بسبب الشكل أو الوزن، فهذه كلها أمور مستعبدة، حيث لا شكل له ولا وزن، وإنما هو أرقام تسجلها الدفاتر أو تكتب على الأوراق. وإنما هو مثلي تبعًا للمنفعة المحققة من وراءه، ومثليته هذه يفترض ثباتها طالمًا استقرت الأسعار، ولكنها تتعيب تماما كما هو الحال في النقد الورقي إذا ارتفعت الأسعار وظهر التضخم واستمر على مدى الأجل الطويل، ومن ثم تصبح قضية التعويض ضرورية لأجل العدالة.

فالنقود الورقية في حالة استقرار الأسعار لها منفعة وقيمة حقيقية لا تختلف عن الدنانير الذهبية أو الدراهم الفضية، ويمكن التعامل بها غدًا بثقة تامة. أما في حالة ارتفاع الأسعار (أو انخفاضها) فالأمر يختلف، إذا كان الارتفاع في الأسعار يسيرًا ولفترة قصيرة عدة شهور مثلًا، ثم انتهى، فلا بأس من القول بمثلية النقد الورقي، وذلك حرصًا على استقرار المعاملات في الأسواق، وحرصًا على الحقوق والالتزامات بين الأفراد. وفي حالة ما إ ذا كان الارتفاع في الأسعار مستمرًا على مدى عام وأكثر، فإنه سوف يؤثر في تماثل وحدات العملة الورقية، حتى وإن كان يجري بمعدلات منخفضة؛ وذلك لأن الأثر التراكمي له سوف يكون كبيرًا على مدى الفترة الزمنية الطويلة. وفي هذه الحالة تتعيب المثلية، وكلما كان الارتفاع في الأسعار كبيرًا، كلما تأكدت هذه النتيجة، وحينئذ لا يمكن القول بمثلية النقد الورقي، ولابد من اعتباره قيميًا، أو رفض التعامل به إذا وجد بديل أفضل منه (١) .


(١) قياسًا على ما قاله الفقهاء قديمًا في الدراهم والدنانير المغشوشة، فإنني أرى أن إقراض النقود الورقية في ظروف التضخم الجامح لا يصح؛ لأنه في حالة رد القرض بمثله عددًا سيحصل المدين على ربا حقيقي، نتيجة أن يرد نقودًا قوتها الشرائية أو قيمتها الحقيقية منخفضة عن هذه التي اقترضها. وسوف يكون هذا الربا فاحشًا إذا كان التضخم جامحًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>