للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانطلاقًا من المناقشات والآراء التي تم عرضها فيما سبق من صفحات وما يستخلص منها، أعتقد أن مسئولية الحكومة في قضية التعويض تتحدد من خلال الأطر الشرعية والاقتصادية التي تعمل على تحقيق العدل بين الناس في معاملاتهم وفي تحصيلهم لحقوقهم، أو أداء ما عليهم من التزامات تجاه البعض، مع الحفاظ على توازن دقيق بين معالجة أسباب المشكلة وآثارها. وهذا ما نعمل على توضيحه فيما بعد:

أولًا – يرى البعض أن مسئولية الحكومة في مواجهة مشكلة تدهور القيمة الحقيقية للنقود يجب أن تنحصر في أمر واحد، ألا وهو معالجة سببها وهو التضخم، فتدهور القيمة الحقيقية للنقود ما هو إلا إنعكاس لارتفاع الأسعار أو هو الأثر الناجم عن ارتفاع الأسعار، ومن ثم فإن الاهتمام بعلاجه بالتعويض أو بغير ذلك يمكن أن يؤدي إلى إهمال السبب الأساسي، فتزداد المشكلة تفاقمًا.

ونرى أن معالجة السبب يجب أن تسير جبنًا إلى جنب مع معالجة الآثار التي تعبث بالعدالة في أداء الحقوق والالتزامات الآجلة، وللتأكيد فإن إهمال معالجة السبب لايعني سوى استمرار الداء وما يترتب عليه، ولكن إهمال معالجة ما يترتب على الداء لايعني سوى المعاناة مع احتمال استفحاله.

وتنبع مسئولية الحكومة في معالجة التضخم من أنها تتحمل بصفة أساسية مسئولية إدارة عرض النقود داخل الاقتصاد، سواء عن طريق الإصدارات النقدية أو عن طريق تفويض البنك المركزي في إدارة النقد المصرفي. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات أن الارتفاع المستمر في الأسعار لا يمكن أن يكون ناشئًا فقط عن صدمات طلب أو صدمات عرض مجردة عن زيادات نقدية، فالواقع أن آليات السوق الحر كفيلة بتصفية الموجات التضخمية الناشئة عن صدمات الطلب أو العرض بعد فترة، واستعادة الاستقرار في الأسعار،ولكن التغذية النقدية، أو زيادة عرض النقود، في ظروف الصدمات هي التي تسبب في استمرار الأسعار في الارتفاع، ومن ثم فإنها مسئولية السلطات النقدية أن تتحكم بدقة في معدلات الزيادة في عرض النقود حينما تظهر بوادر صدمات طلب أو عرض تضخمية، وكذلك حينما تسعى إلى إزالة هذه الصدمات تدريجيًا حتى لا يستمر الارتفاع في الأسعار (١) . ولكن التسليم بضرورة الإدارة الحكيمة والرشيدة لعرض النقود لا يعني بالضرورة النجاح في وقف عملية الارتفاع في الأسعار والتخلص من التضخم،؛ لأن ثمة عوامل عديدة تتدخل في الصورة وتمنع من استعادة الاستقرار والعودة إلى التوازن بسهولة أو في مدى قصير من الزمن (٢) ، من ثم فإن التضخم سوف يستمر، ولابد من معالجة ما يترتب عليه من اختلالات في النشاط الاقتصادي وفي المعاملات والحقوق والالتزامات، وتزداد أهمية هذه المعالجة ومسئولية الحكومة في القيام بهما كلما زادت حدة التضخم وطال أمده.


(١) في التحليل الاقتصادي، تترتب صدمات الطلب على زيادة تلقائية في الاستهلاك أو الاستثمار أو في الإنفاق العام (الحكومي) أو صافي الصادرات (الصادرات – الواردات) بالقرب من مستوى التوظف الكامل، ويترتب على صدمة الطلب حدوث فجوة تضخمية يصاحبها ارتفاع في المستوى العام للأسعار، فإذا بقي عرض النقود ثابتًا فإن آلية السوق الحر ستعمل على إزالة هذه الفجوة تلقائيًا بعد فترة، ويتوقف الارتفاع في المستوى العام للأسعار، أما صدمات العرض فتحدث بسبب ارتفاع في معدلات الأجور العمالية بنسبة تفوق الزيادة في الإنتاجية الحقيقية أو ارتفاع عام في تكلفة الإنتاج لأسباب أخرى، مثلًا ارتفاع أسعار الخدمات المستوردة اللازمة للنشاط الإنتاجي، فيرتفع المستوى العام للأسعار.فإذا بقي عرض النقود ثابتًا فإن آلية السوق الحر ستعمل تلقائيًا على إزالة هذا الوضع والعودة إلى مستوى الأسعار السابق مرة أخرى بعد فترة (ربما عام أو عامين) ، أما إذا صاحب صدمة الطلب أو صدمة العرض زيادة في عرض النقود داخل الاقتصاد، فإن النتائج سوف تختلف تمامًا، فيستمر الارتفاع في المستوى العام للأسعار بلا توقف، وقد يتسارع معدله بسبب توقعات استمراره، أو مزيد من التغذية النقدية.
(٢) وأهم هذه العوامل هي المطالبات العمالية بزيادة معدلات الأجور، وفقًا لمعدلات التضخم بسبب توقعاتهم باستمراره.

<<  <  ج: ص:  >  >>