ثانيًا – ينبغي أن يلاحظ أن مسئولية الحكومة في الاقتصاديات الوضعية التي تعتمد على آليات السوق الحر أساسًا في معالجة أسباب التضخم وآثاره؛ تقل عن مسئولياتها في ظل نظام إسلامي فيه إشراف على الأسواق والمعاملات التي تجري فيه لأجل تحقيق العدالة، ففي البلدان التي ارتضت أنظمة السوق الحرة يسعي الأجراء تلقائيًا للمطالبة بزيادة أجورهم النقدية حينما ترتفع الأسعار؛ لتعويض التدهور في القيمة الحقيقية لدخولهم، وقد يُضربون أو يمتنعون عن العمل لتحقيق مصالحهم، والحكومة لا تتدخل إلا إذا وصلت الأمور إلى الحد الأسوأ.
أما في البلدان الإسلامية فالتراضي في المصالح بين الأجراء وأصحاب الأعمال يجب أن يتم في إطار التماسك الاجتماعي بين الطبقات؛ لأن المسلمين أخوة، ومن ثم فإن الحكومة لا تدع الأمور تصل إلى حد المصادمة بين المصالح الطبقية.
كذلك فإنه في البلدان المتقدمة ذات الأسواق الحرة أصبح نظام الفائدة مستقرًا وله مؤسساته الراسخة، واعتمادًا على هذا النظام تجد رجل الأعمال أو الرجل العادي لا يقرض أمواله بالزمن، إلا مقابل فائدة لا تعوّض فقط التدهور في القيمة الحقيقية للنقود التي يسببها التضخم، بل تزيد عن ذلك. والبنوك الربوية تتنافس في عرض مزايا لاستخدام مدخرات الأفراد لآجال طويلة في ظل هذا النظام. وعامة الناس أصبحوا في هذه البلدان مدركون لظاهرة خداع النقود (١) ، ومتمرسون في عمليات الإقراض والاقتراض بفوائد، أو استخدام أموالهم في مضاربات شراء وبيع أوراق مالية على مدى الزمن، لكي يحققوا من ورائها عوائد مجزية تحفظ قيمة ثوراتهم الحقيقية أو تنميتها في إطار الظروف التضخمية.
ولكن الأمر يختلف تمامًا في ظل نظام اقتصادي إسلامي، حيث لايسمح للأفراد بالمعاملات الربوية ولا يصرح لهم بالتغلغل في المضاربات السعرية في أسواق الأوراق المالية، سواء قيل: إن هذا أو ذاك للمحافظة على القيمة الحقيقية لثرواتهم في ظروف التضخم، أو لأجل تنمية هذه الثروات.
ومن ثم نتبين مسئولية الحكومة في معالجة المشكلة، سواء من جهة سببها أو أثرها في ظل توجه اقتصادي إسلامي.
(١) خداع النقود Money Deception هو المصطلح الشائع للتعبير عن الفرق بين ما تظهره القيمة الاسمية للنقود الورقية وقيمتها الحقيقية المعبر عنها بقوتها الشرائية. وفي البلدان النامية لا يفطن كثير من الناس إلى خداع النقود، فيظنون أن زيادة الأوراق النقدية في أيديهم بسبب زيادة دخولهم النقدية معناه زيادة دخولهم الحقيقية، ولكنهم يتنبهون بعد فترة إلى أنهم قد خدعوا بالزيادة الاسمية أو العددية؛ لأن قدرتهم على استخدامها في شراء حاجتهم قد بقيت ثابتة، أو انخفضت بسبب ارتفاع الأسعار بمعدل مماثل أو بمعدل أكبر (على الترتيب) . أما في البلدان المتقدمة فقد أصبح عامة الناس شديدي الفطنة لظاهرة خداع النقود، ومن ثم يتصرفون لكي لا يضاروا بتدهور قيمتها الحقيقية في الأجل الطويل.